تتناول رواية الشحّاذ (1965) أزمة المعنى لدى الفرد في المجتمع المصري الحديث، من خلال شخصية عمر الحمزاوي، رجل القانون الناجح الذي يجد نفسه في مواجهة فراغ وجودي، يدفعه إلى الانسحاب التدريجي من حياته المهنية والعائلية بحثًا عن إجابة لسؤال لا يصاغ بوضوح. وعلى الرغم من الطابع الفردي والوجودي الظاهر للرواية فإن مقاربتها من زاوية جندرية تكشف عن انحياز بنيوي في توزيع الأدوار والمساحات بين الجنسين ويُضيء مفارقة مركزية: هل كانت زوجة الحمزاوي، زينب، لتتمكن من خوض التجربة ذاتها لو انعكست الأدوار؟
الإجابة تُحسم منذ البداية بالنفي.
فالشروط المادية والرمزية اللازمة لخوض مغامرة تأملية ووجودية ليست متاحة للمرأة ضمن السياق الاجتماعي العربي التقليدي، لا سيما حين تكون أمًا. بينما يُمنح الرجل هامش الانسحاب والضياع والتجريب تحت شعار البحث عن الذات، تُلزَم النساء بأداء أدوار محددة لا تتيح لها حتى حق التوقّف المؤقت.
في الشحّاذ، تُقدَّم زينب بصفتها الزوجة المثالية، التي تضمن استقرار الأسرة بصمتها واحتوائها وانضباطها، دون أن نرى لها أي مواقف فكرية مستقلة أو طموحات ذاتية. هذا التمثيل ليس عارضًا، بل يُعبر عن تمثُّل كامل للإيديولوجيا الجندرية السائدة، والتي تصوغ وعي النساء وفق أدوار وظيفية محددة: الرعاية، الاحتواء، الطاعة. هذه الأدوار لا تكتفي بتقييد السلوك، بل تُعيد تشكيل تصور المرأة لذاتها، وتمنعها من بناء موقف فكري مختلف أو مناهض.
الخطورة هنا أن القيود ليست فقط اجتماعية، بل فكرية أي أن المرأة غالبًا ما تُعاد برمجتها منذ الطفولة لتتبنى القيم التقليدية بوصفها "طبيعية" و"فطرية" مما يجعل الخروج عليها يبدو كخيانة للأنوثة ذاتها. ولهذا السبب، حين تُفكّر في التملص من أدوارها، فإنها لا تواجه المجتمع فقط، بل تواجه ذاتًا تَماهت طويلًا مع ذلك.
إن هذه الأدوار ترتبط ارتباطًا مباشرًا بمسألة "المساحة الخاصة". فالنساء لا سيما في موقع الأم يحرمن من الوقت والعزلة وحتى من ملكية المساحة المادية أو الفكرية داخل البيت. بالتالي لا مجال للتفكير ولا للتجريب ولا للفوضى المؤقتة التي يحتاجها أي مشروع تأملي أو إبداعي.
في هذا السياق أستحضر فرجينيا وولف وما طرحته في كتابها غرفة تخص المرء وحده لتؤكد أن امتلاك النساء لمساحة مستقلة ومصدر دخل هو شرط سابق للكتابة أو للفكر الحر. هذه الغرفة ليست مجرد مكان بل استعارة عن السيادة الفردية على الوقت، والخيال، والهوية.
وبالعودة إلى زينب، نجد أنها لا تملك "غرفة" ولا حتى مساحة رمزية تتيح لها الانقطاع أو الانهيار. إنها موجودة بوصفها وظيفة اجتماعية ثانوية، وليس شخصًا كاملًا. وفي مقابل كل خطوة يتخذها الحمزاوي نحو هدم حياته المنظمة بحثًا عن "المعنى"، لا تملك زينب الحق في الانسحاب أو الرفض أو حتى التعبير
وعلى صعيدً آخر، تظهر الرواية كيف تتحول الأمومة التقليدية لتجسيد للتنازل لكلي. ففي البنية الثقافية العربية تُرفَع الأم إلى موقع القداسة ولكن عبر منطق يفترض تضحيتها الكاملة. فالأم الجيدة هي التي "تتنازل" التي لا تطلب التي تذوب في الآخرين. هذه الصورة تتكرّس في شخصية زينب، التي تؤدي دورها الكامل في الصمت والرعاية، حتى في لحظات غياب الزوج ومرضه وانفصاله عن الأسرة. هي من تُبقي البيت قائمًا، ومن تُربّي، ومن تحتمل. لكنها، رغم مركزيتها، لا تُمنَح أي مجال للتعبير عن ذاتها أو مساءلة موقعها.
بالتالي الأمومة، كما تُصوّر تقليديًا، تُصبح قيدًا لا يُساءَل، وتُلغي بذلك الذات الفردية للنساء لصالح الدور الجمعي
إن ما يطرحه نجيب محفوظ في الشحّاذ باعتباره رحلة شخصية لرجل فقد المعنى، يُظهر نفسه، عند قراءته جندريًا، كامتياز لا يُتاح للنساء في المجتمع ذاته. ليس لأن النساء أقل رغبة في التساؤل، بل لأن الأدوار الاجتماعية تضيّق عليهن حتى في مجالات الفكر والوجدان.
فالتجربة الوجودية في معناها العميق، تتطلّب مساحةً وصمتًا وانفصالًا وأحيانًا انهيارًا مؤقتًا وهي كلها شروط لا تُمنح للنساء بسهولة.
إن ما بدأ كسؤال شخصي خلال قراءتي الثانية للرواية "هل أستطيع أنا كامرأة أن أخوض رحلة كالتي خاضها عمر؟" تحوّل إلى إدراك بأن ما يُصوَّر كـ"بحث عن المعنى" هو امتياز طبقي وجندري لا يُتاح للنساء في مجتمعاتنا. وإن قراءة فرجينيا وولف وعكسها على الرواية ساعدتني كثيراً في فهم كيف تؤثر توفير المساحة ماديًا ورمزيًا وأيديولوجيًا على النساء.