في عالمٍ عربيٍّ رتيب، دُفنت فيه الأصوات الشبابية والشعبية تحت ركامٍ من التجاهل، الحروب، القمع، والخوف، برز زياد الرحباني كصائدٍ يمسك بتلك الأصوات بإحكام؛ فيلحنها أو يحييها بمسرحية، فيقدّمها بروحٍ من الأمل والغضب الساخر. فمن هذا العبقري الذي غيّر تيار الرحابنة من غناء الوطن، إلى المتمرّد الذي غنّى للشعب والمقهورين والمهمّشين؟
وُلد زياد الرحباني في 1 يناير 1956، ونشأ في جو موسيقي وفني ثري؛ فقد كان الابن البكر لنهاد حداد، التي عُرفت باسمها الفني "فيروز"، وعاصي الرحباني، الذي كان جزءًا من الثنائي الرحباني (عاصي ومنصور الرحباني). فكانت الموسيقى لغته الأم، وفي ظل الألحان المتطايرة، كتب أول ديوان شعري له في سن الثانية عشرة فقط، لكنه لم يُكمل رحلته الأدبية، فهوت به حافة الأدب إلى بحر الألحان، والإيقاع.
كتب أول ألحانه في سن الخامسة عشرة، في أغنيته "ضلّك حبيني يا لوزية"، وعلى مشارف السابعة عشرة، أثبت عبقريته الموسيقية بتلحينه أغنية "سألوني الناس"، بكلمات منصور الرحباني، وقدّمتها فيروز لعاصي الرحباني عقب تدهور حالته الصحية آنذاك. التلحين وقتها كان ينهج النهج الرحباني الكلاسيكي، إلا أن زياد لاحقًا تمرد بوضوح على منهج والده وعمه، فوسّع دائرة الرحابنة، ونوّع أثرهم بألحانه الجريئة، المفعمة بأصوات الشعب.
وفي ظل الركود والصمت، ظهر زياد كظاهرة استثنائية غير متوقعة؛ فجعل من ألحانه رسائل غامضة من شعبه، وتميّز بأسلوب موسيقي متمرّد، يمزج بين الموسيقى الشرقية الكلاسيكية والجاز والبلوز، وحتى الروك، فجمع بين الموسيقى الغربية والشرقية، مشكّلًا نهجًا جديدًا، حرًا، منفلتًا في الموسيقى العربية.
ورغم أن الرحابنة كانوا دائمًا يغنّون للوطن والحرية دون توجهات سياسية واضحة، كان زياد يساريًا معروفًا، يتحدث عن أوضاع الطبقة المتوسطة، الكادحة. كتب مسرحيات مثل:
- "نزل السرور" (1974): من أوائل مسرحياته الناقدة للطائفية والسلطة.
- "بالنسبة لبكرا شو؟" (1978): تناولت قضايا الخيانة والانتماء والوضع السياسي الهش.
- "فيلم أمريكي طويل" (1980): عرضت وضع المثقف والسياسي في ظل الحرب، بطريقة عبثية، وساخرة.
وقد تأثرت كل مسرحياته بالانقسام الطائفي اللبناني وبالحرب الأهلية (1975–1990)، واعتمد فيها على شخصيات متكرّرة من الطبقات الشعبية، ناطقين برسائله، ومنحهم أدوار البطولة، الحقيقية، النقية.
ولم يكتفِ بالموسيقى والمسرح، بل قدّم أيضًا برنامجًا إذاعيًا بعنوان "صوت الشعب"، تناول فيه المواضيع السياسية بسخرية وعبثية، وساخر سوداوي.
أما عن أعماله مع والدته فيروز، فقد جعل من صوتٍ ارتبط بالموسيقى الرحبانية الكلاسيكية نسخة شبابية دافئة تغني للحب. ذلك الحب الذي لم يكن يومًا إلا لعبة فيروز الصغيرة؛ تُجمّله فيرتمي المرء في هاويته، وتُقبّحه فيبكي على فعلته.
كان أول ألبوم مشترك بين زياد وفيروز هو "معرفتي فيك" (1984)، وتضمّن أغاني عدة منها :"ما قدرت نسيت"، "أمس انتهينا"، "راح نبقى سوا". وقدّم زياد أعمالًا أخرى مثل "عندي ثقة فيك"، التي لحّنها بصوت فيروز لحبيبته الفنانة كارمن لبّس آنذاك. كما تعاون مع فنانين مثل لطيفة، سلمى مصفي، جوزيف صقر، وسامي حواط.
زياد كان شخصية مثيرة للجدل بامتياز؛ تجمع شخصيته بين المحبة الشديدة والرفض، بسبب آرائه اللاذعة، الصريحة، الساخرة، القاسية، التي لا تحتمل الغموض بأي شكل. ورغم الركود الفني، وانعدام حرية الرأي، كان زياد ظاهرة لا مثيل لها. ورغم أنه لم يتقمص دور المعلم أو الحكيم الأعلى، إلا أنه قدّم دروسًا لا تُنسى بإخلاصه لفنّه، وتقديسه لكلمته التي لا تُخرَج اعتباطًا، ومبادئه الثابتة، التي وإن لم تلقَ الإعجاب، بقيت أصلية.
كان شخصًا مفكرًا، فنانًا، ومتمردًا. فصار زياد، برحيله، لحن الرحباني الخالد.