هل يمكن للإنسان أن يختار بطوع إرادته سجناً ليحيا به؟ أم هو يفعل ذلك بكل رضى بشكل لاإرادي؟ أم نحن من نجبر على اختيار هذا السجن؟
أحد المشاهد الدراماتيكية في فيلم The Truman Show الذي أُنْتِج عام 1998 هو بعد وصول ترومان لباب الخروج من العالم الذي أعتقد منذ ولادته أنه حقيقي، فقد كان مادةً خصبة لملايين المشاهدين حول العالم مضحياً بخصوصيته كلياً، إلا أن الشك بدأ يتدفق مع عمليات التخريب من العمال السابقين في البرنامج، ليكشف في نهاية الأمر أن ما يحدث هو حلقة تكرر نفسها، وما يتجدد في حياته هو نتيجة تفكير مؤلف البرنامج، الذي يؤدي دور الرب، ويكون ذلك واضحاً عند حديثه في نهاية الأمر مع ترومان ونظرة الأخير إلى السماء وكأنه يتحدى مفهوم القدرية والرب والعالم بأسره. فقال له جملة مفصلية وهي "أن العالم فور خروجك هو كمثيله في الداخل، مليء بالمُكر والخداع والكذب، ولكن هنا يمكنك أن تكون على حقيقتك". ويهرب ترومان في نهاية الأمر عبر السفينة التي تحمل في مقدمتها مجسماً لرأس نسر، متحدياً الرياح والصواعق والأمواج العاتية التي خلقها صاحب البرنامج، وهنا تجسيد واضح للفردانية والنجاح والحرية برمزية الحُلم الأمريكي، وهو مما يذكرنا بفيلم "الشيخ والبحر".
يدفعنا الفيلم للسؤال عن مدى أخلاقية ما يحدث، على الرغم من مشاهدته من قبل العالم بأسره وتحقيقه لإيرادات وأرباح مهمة، وهو مما يمكن تبريره بشرعيته المعقولة إذا ما وافقت الأغلبية، فإذا قمنا بفصل تجربته الشخصية كشخص مُنسلخ عن خصوصيته، في عالم لا يجعله يُدرك ذلك، ويتأثر المُشاهد عاطفياً به، فهو في تلك الحالة مُبرر. فتأتي التبريرات والشرعيات ليس لأنها صحيحة في ذاتها، بل لأنها تحصل على موافقة الأغلبية، ولأنها تحقق ربحاً. فالربح في المجتمع الرأسمالي هو المعيار الأخلاقي للخير. ويمكن بهذه الحالة أن يكون ما يُحقق الربح بغض النظر عن شاكلته ووسيلته صحيحاً.
البُعد الثاني في الفيلم يرتكز على ترومان نفسه، فيكمن السؤال إذا لم تدخل أي من الشخصيات التي أخلت في توازن البرنامج، فهل يمكن أن يركز على أن يتحرر من سجنه؟ تكمن الحرية بهذا المعنى في ارتكازها على عنصر "المؤثر". والمؤثر هو الدخيل الذي يقحم احتمالات وافتراضات جديدة، وإذا ما توافقت مع المتأثر، فهو في هذه الحالة له الحرية في أن يختار أن يتماشى مع هذا الدرب، وقد أصبح ذلك متاحاً له عبر "سليفيا" التي أصبحت الغاية العاطفية التي يُركز عليها. وقد أصبحت اللحظة المفصلية التي كشفت له العالم بعدها. فمن هذا المنظور يمكن أن نقول إن قراره ينبع من إرادة واعية بالاحتمالات الجديدة لما يمكن أن ينتظره في الخارج. ومن منظور فلسفي يمكن تحقيق مقاربة مع سماه لويس ألتوسير بالدور الأيدولوجي. الذي بمقتضاه تحدد مُسبقاً الأدوار الخاصة لكل فرد منا عبر سلطة معينة، وهذا الدور يحدد في النهاية توجهاتنا الفكرية. فإن نولد تبعاً للظروف في بيئة محافظة خالية من الأفكار النقيضة، وذو دور إنتاجي معين مثل مُعلم تاريخ في مدرسة ما، فإننا نتشكل بالمُعتقد والفكر والبيئة طيلة حياتنا.
يعلمنا الفيلم أهمية الحرية في مجتمع بدأ يضحي بها لصالح ما هو نفعي واستهلاكي، فهو في نهاية الأمر ينتزعها بالقوة والذكاء اللازمين للعيش في عالم لم يخرج كثيراً عن الخداع والكذب، بل شكل كذبة وردية تبقي الإنسان عالقاً عند مراحله الأولى من التعلم. فالتعلم يترادف مع المعاناة التي طالما ما رسمت معنى أن يُدرك الإنسان الحياة بجوهرها.