في شعر نزار قباني، تتجاوز المرأة حدود الأدوار التقليدية لتصبح محورًا للحياة والفن والتحرر. لم يعد حضورها مقتصرًا على الجمال الجسدي أو الغزل الرومانسي، بل امتد ليشمل رمزية الحرية والتمرد والدفاع عن الحقوق. من الحبيبة العاشقة إلى المرأة المتمرّدة والضحية الاجتماعية، يقدّم نزار في نصوصه صورة متعددة الأبعاد للأنثى، يبرز من خلالها تضارب العاطفة والقوة والضعف والحرية في آن واحد. ومن خلال هذه الرؤية، يعيد نزار صياغة مكانة المرأة في الشعر العربي، ليمنحها حضورًا حيًا وفاعلاً، يتجاوز حدود التقليد، ويعبّر عن حلم إنساني بالتحرر والجمال الخالد. وتحتلّ المرأة مكانة مركزية في تجربة نزار قباني الشعرية، حتى يكاد القارئ يشعر أنّ كل قصيدة عنده تُكتب من أجلها، أو تنطلق منها. فقد مثّلت المرأة عنده أكثر من مجرد موضوع للغزل، إذ تحوّلت إلى رمز للجمال والحرية والحياة، وأحيانًا إلى صوت احتجاج على القيود الاجتماعية التي كبّلتها عبر التاريخ. منذ بداياته، كسر نزار الحاجز التقليدي الذي كان يحاصر صورة المرأة في القصيدة العربية الكلاسيكية، حيث كانت تظهر غالبًا في هيئة المحبوبة البعيدة، المجرّدة من تفاصيلها الإنسانية والجسدية، ليمنحها حضورًا ملموسًا وحسيًّا يتّسم بالجرأة والصدق. ففي قصائده الأولى، قدّم صورة المرأة الحبيبة/المعشوقة التي تفيض بالأنوثة، مركزًا على ملامحها وتفاصيل جسدها، مستخدمًا لغة شعرية جديدة جعلت من الجسد الأنثوي خطابًا فنّيًا يحرّر الشعر من تقليديته. ولم يكن هذا الطرح مجرّد انبهار بجمال المرأة الخارجي، بل محاولة لإعلاء قيمة الحب والجسد كقيمة إنسانية أصيلة لا ينبغي قمعها.
لكن نزار لم يتوقف عند هذا المستوى الحسي، بل تجاوز إلى منح المرأة بعدًا رمزيًا أعمق. فهي في كثير من نصوصه مرادف للحياة نفسها، وللحب الذي يواجه القبح الاجتماعي والسياسي. تتحول المرأة عنده إلى مدينة أو وطن أو قصيدة، بما يعكس قدرة الشاعر على جعلها مجازًا للحرية والخصوبة والإبداع. وقد جعل من صورتها تجسيدًا للحلم الإنساني بالتحرّر والانعتاق من القيود، فصارت المرأة عنده رمزًا لكل ما هو جميل وحرّ ومتجدد.
في جانب آخر، رسم نزار صورة المرأة الضحية التي سُلبت حقّها في الحب والاختيار، ووجد نفسه شاعرًا مدافعًا عنها ضد مجتمع ذكوري يقمعها ويحاصرها. فهو يندّد في غير نص شعري بمأساة المرأة الشرقية، ويدعو إلى تحريرها من سلطة الأعراف والتقاليد التي اختزلتها في أدوار محدودة، وحجبت عنها حقها في التعبير والقرار. وهكذا تحوّل شعره إلى منصة احتجاجية، يفضح من خلالها مظاهر التمييز والظلم الاجتماعي.
ومع هذه الصورة، نجد المرأة المتمرّدة في شعر نزار قباني، تلك التي تتجاوز الخضوع والانتظار، لتعلن رغبتها في الحب بحرية وجرأة. أحيانًا يتكلم الشاعر بلسانها، ليعطيها حق النطق بما لا تجرؤ عليه في الواقع، كأنّه منحها منبرًا أدبيًا تعبّر من خلاله عن شوقها وأحلامها وانكساراتها. وبذلك قدّم نموذجًا جديدًا للأنثى الفاعلة لا المفعول بها، القادرة على مواجهة الرجل والتعبير عن كيانها بوعي وإصرار. ولا تخلو نصوصه أيضًا من صورة المرأة الأسطورية أو الكونية، حيث ترتقي إلى مصاف الكائنات الخارقة، فيجعلها رمزًا للجمال المطلق الذي لا يُطال، أو قصيدة سرمدية لا تنتهي. هذه النزعة الأسطورية تعكس إيمان نزار قباني بأن المرأة ليست مجرد فرد بشري، بل هي طاقة كونية تمنح الحياة معنى كونيا.
إن صورة المرأة في شعر نزار قباني متعدّدة الأبعاد، فهي الحبيبة الجسدية، والرمز الروحي، والضحية الاجتماعية، والثائرة المتمرّدة، والكائن الأسطوري. بهذا الغنى والثراء، استطاع نزار أن يمنح المرأة حضورًا غير مسبوق في الشعر العربي الحديث، وأن يحوّلها من موضوع ثانوي إلى مركز يلتقي عنده الحب والفن والحرية والوجود الإنساني كله. وتبقى المرأة عند نزار قباني أكثر من حبيبة، أكثر من جسد، أكثر من حلم…
هي قلب ينبض بالحياة، وعين ترى الحرية، هي القصيدة التي لا تنتهي،
والأنفاس التي تصنع من الحب ثورة، ومن الجمال صوت يتخطى القيود،
ويُعيد للأنوثة مجدها الذي لا يزول.