"أما مشكلة الإنتاج الزائد... فإن وعي الجماهير يحتاج فقط إلى أن يُؤثَّر عليه بطريقة سلبية"
رواية 1984 – جورج أورويل
برغم كمّ الزخم المعرفي الهائل الذي يوفره لنا العالم الرقمي، وظاهرة المؤثرين في عموم وسائل التواصل الاجتماعي، واكتساب معلومات جديدة على جميع الأصعدة الثقافية والمعرفية، وسهولة الوصول إلى المعلومة مع الذكاء الاصطناعي، فقد سهّلت هذه الوسائل احتكار الحقيقة في آخر العشر السنوات المنصرمة مع التطور التقني.
كان في السابق وجود التلفاز والراديو والسينما والصحف والمجلات يجعلنا نرى الأحداث والقضايا من منظور واحد، وكانت الحقيقة مقيدة في يد أصحاب تلك الوسائل. وما فعله الإنترنت أنه كسر هذه السطوة، فأصبحت للحقيقة عدة أوجه وسرديات مختلفة لنفس الحدث، مما سهّل –على الأقل– معرفة أن الحقيقة نفسها غير مقنعة، وربما هي ليست الحقيقة المطلقة. ولكن سرعان ما حاولت الكثير من الأنظمة والجماعات التغيير حسب موجة التطور المعرفي، لصنع أيديولوجيات مختلفة قد تكون أحيانًا لفرد أو لجماعة، وانتقلت مصداقية الحدث إلى عدد المشاهدات للصفحة، بحيث أصبح الرأي الصادق هو عدد المشاهدات والإعجابات.
بعدها تحولت هذه الأدوات إلى وسائل تأثير على حقيقة الفكرة أو المحتوى أو المنتج أو الأخبار التي تُذاع عبر تلك الصفحات، بدون التأكد من صحة المعلومة ومصادرها الموثوقة. وسرعان ما فهمت الأيديولوجيات المختلفة هذه الطريقة السحرية للتأثير على الأفراد والجماعات، أحيانًا بالتلاعب بكيفية نشر المحتوى لأكثر فئة من غير المتابعين للصفحة، ليصبحوا من بعدها متابعين، وجعلك شريكًا في الخبر، تُبدي رأيك الخاص فيه، بغض النظر عن مدى فهمك أو اللغة والأسلوب الذي تعلق به. في عمق هذه الفكرة الذكية، أصبحت هناك وسيلة للأخذ والعطاء في الأفكار، وأحيانًا تصل إلى تبادل الإهانات. لم توسّع لنا هذه الوسائل الحرية المعرفية، بل جعلتنا نخضع لأيديولوجيا جديدة تحت مسمّى "المؤثرين"، التي تسعى سلطات أكبر لجمعهم، أو ربما للترويج الفردي الذي يصنعونه لأنفسهم، لينقلوا خبراتهم الحياتية في كافة المجالات: في الطب، وعلم النفس، والجانب الأسري.
أذكر أن هناك برنامجًا مشهورًا، تعرض فيه إحدى المذيعات لتقديم نصائح في الزواج والأسرة، بينما أن المذيعة فشلت على مدار ثلاث زيجات في تكوين أسرة مستقرة. نعم، هذا ليس معيارًا مطلقًا للحكم، ولكن لننتقل إلى العالم الرقمي: الأخبار، برامج البودكاست، الكتّاب، والراقصين، ليُقاس كل شيء على مستوى عدد المتابعين. أصبحنا أمام صناعة معلومات "حسب الطلب"، صُنعت خصيصًا لك، بدون التأكد من صحة المعلومة، لتكون متابعًا أو مشاهدًا أو زبونًا أو معجبًا. وهذه الأيديولوجيا الضخمة، المصوّبة عبر طرق احترافية، كما قال تريستان هاريس –الذي عمل في وقت سابق كخبير أخلاقيات التصميم لدى جوجل– في فيلم وثائقي نُشر على منصة نتفليكس بعنوان المعضلة الاجتماعية. فقد شاهده ما يُقدّر بمئة مليون شخص، في حوالي مئة وتسعين دولة، بثلاثين لغة مختلفة:
"إنها جميعًا تأتي من اختراق تدريجي أو تقويض لنقاط الضعف البشرية. نأخذ التشتيت وكثرة المعلومات. لماذا نرى ذلك؟ لأن التكنولوجيا اخترقت أو طغت على ذاكرتنا قصيرة المدى، وحدود نظام التحكم التنفيذي لدينا، في محاولة للتركيز على ما نحاول فعله".
أي أن مدى التأثير الذي يصل إلينا عبر المعلومات التي يريدون إدخالها إلينا، يستهدف جذع الدماغ نفسه. هذا التطور، الذي يفهمه جميع ما يُسمّى بالمؤثرين، هو الوصول إلى أحاسيسنا، وتمييزنا العنصري أحيانًا، والانتماء الطبقي أو العرقي أو الحقل الثقافي، باستخدام التصوير الاحترافي، والمونتاج، والموسيقى المناسبة.
إذن، هذا يضعنا أمام حقيقة: هل نحن متابعون أم عبيد رقميون؟ هل نحن متأثرون –ربما– بأيديولوجيا لا نستطيع فهمها، تُمرَّر إلينا عبر طرق الترفيه والمعلومات، لتمرير ما يريدون أن نستهلكه؟
فإن شريان هذه الوسائل –وسائل التواصل والمشهورين– هو الإعلانات. وهذا يجعلنا نقف وقفة مطوّلة عند: الإعلان، والاستهلاك، والتمرير المعلوماتي... لنعرف موضعنا في اللعبة.