في رواية الغريب صدرت محاكمة بميرسول بالإعدام بسبب قتله عربياً لما وصفه بأنه بسبب الإزعاج الذي تسببت به أشعة الشمس بعد مروره من طريقه، ولم يبد الاكتراث أو الاهتمام لهذا الأمر كمثل لجنة المحلفين أو الصحفيين أو عامة الناس من المتفرجين مثلاً، فقد قال الحقيقة من طرفه فعلاً، ولعل ما شجع حًكم الإعدام عليه، هو لامبالاته المطلقة تجاه جنازة والدته، إذ لم يعرف تحديداً متى تُوفيت، أو حتى متى وُلدت، ولم يبد عليه البكاء والانهيار وقتها، وقد أرسلها إلى دار المسنين لما أعتقد أنها ضرورة تحتم عليه ذلك. ولم يتغير شيء على روتين حياته، إذ دخل في علاقة حميمة عقب دفنها بيوم.
تُعد هذه الرواية إحدى أشهر الأعمال للكاتب الفرنسي المولود في الجزائر ألبير كامو، والتي صدرت عام 1942، في الوقت التي كانت الحرب العالمية الثانية مستمرة. وأدبياً فقد أصبح الروائي يُركز على البُنى الداخلية لطريقة تفكير الشخصية الرئيسية، على خلاف الطريقة الكلاسيكية في روايات تشارلز ديكنز أو فيكتور هوغو مثلاُ الذين يصبون تركيزهم بشكل أكبر على وصف المجتمع وأخلاقياته. وميرسول يحصر القارئ في وضع مستفز، فقد يتساءل إذا ما كان هنالك نوع من هذا البرود في عالمنا. ولكن المسألة التي أراد كامو توصيلها للقارئ هي مرتبطة بصميم فلسفته التي تبلورت في روايته.
يرى كامو في كتابه أسطورة سيزيف أن العبثية تظهر من حاجة الإنسان المستمرة إلى التنظيم والوضوح واليقين، والصمت الكلي الذي يحيق في الكون، فهذا ما يُولد العبثية، ويجعل ما يخلق التنظيم في العالم هو الإنسان نفسه فقط، الذي يصعب أن يكون موضوعياً. وهذا ما كان على لسان ميرسول حين قال مثلاُ عقب حديثه مع القس قبل إعدامه أنه "متيقن جداً، أكثر يقيناً منه، وبكل خطوة يقوم بها". ويأتي مصدر يقينه من العبثية التي تحدث من حوله، ومحاولة الإنسان البائسة لخلق تراتبية تعينه على العيش. ولهذا تحديداً كان مشهد المحاكمة التي سلطت الضوء على عواطفه ومشاعره تجاه والدته هي تمثيل للنظام الاجتماعي الذي يحاول أن يؤسس لردة فعل وعاطفة يجب أن تكون متواجداً عند كل فرد. وقد كان ميرسول متمرداً على أن يتماشى مع النظام ليس لأنه بشكل داخلي معارض، بل لرؤيته أن أي فعل يقوم به من عدمه هو غير مهم في هذا الكون، ففي نهاية المطاف كما عبر عنها " هو جزء صغير من آلاف الذي كانوا على هذه الأرض، فلماذا يجب أن يكون هذا مهماً؟" فقد كان عقلانياً جداً عبر إقصائه للمشاعر وحس الواجب التي بدت أقرب إلى التركيب الاجتماعي والعبء من أن تكون حقيقة مطلقة.
وقد يتساءل القارئ عن مدى واقعية الرواية في حياتنا. ويكمن جزء من الجوانب في المتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يمكن أن تكون ذات أثر بالغ، فيمكن تلمسها كرد فعل الأفراد على الفوضى والإحساس بالانهيار. فيمكن للإنسان أن يتأقلم بحكم العادة مع كافة الظروف وأسوئها، لكن قد يتنامى إليه اللامبالاة التي تنبع من فكرة عدم وجود غد أجمل. وما يُميز كامو في هذه الرواية أيضاً هو نقل مصدر اللامبالاة المتأتي من هذه الظروف إلى النظر في قيمة الإنسان مقارنة بالكون، فهي نظرة براغماتية متشائمة كافية لأن تضع جميع أفكاره ومبادئه أخلاقياته محل السؤال، وهنا يصبح الإنسان لديه كائن بالغ الثقل.
تحيلنا الرواية للتساؤل عن مدى أصالة ما نشعر به أحياناً في حياتنا، فكيف نفرق مثلاً بين حقيقتها بالنسبة لنا، أو تماشيها مع المجتمع الذي يمكن أن يجعل حقيقة ما نشعر به كاستثناء معيب، جاعلة منا غرباء حقاً، وطبيعة الإنسان الاجتماعية تمنعه أن يكون هامشياً وغير موجود، ولكن حين ترتبط المسألة بعدم أهمية ما قد نعطيه من ردة فعل سواء لأنفسنا أو لغيرنا، فهنا تكمن الحرية الحقيقية، وقد تكمن سعادة سيزيف بها.