يشتمل أحد أعداد مجلة "فيلم كومينت" أبرز المجلات السينمائية في الولايات المتحدة، على ثلاثة مقالات عن السينما الإيرانية تقع في إحدى عشرة صفحة، عشرة منها عن المخرج عباس كياروستامي وأعماله السينمائية.
ولعل في احتلالها المخرج لمثل هذه المساحة من مجلة سينمائية أميركية مرموقة خير دليل على المكانة السينمائية المهمة التي يحتلها هذا المخرج وعلى أهمية الدور الذي تلعبه السينما الإيرانية في السينما العالمية.
يصف المعلق السينمائي جادفري شيشاير المخرج عباس كياروستامي نقلاً عن كبار المخرجين السينمائيين الفرنسيين بأنه "أهم مخرج سينمائي يظهر على المسرح العالمي في فترة "التسعينات" ويستشهد الكاتب شيشاير بتعابير الإعجاب بهذا المخرج الإيراني المتميز من قبل عدد من أبرز مخرجي العالم كالياباني أكيرا كوروساوا والفرنسي جان –لوك جودار والألماني فيرنر هيرزوج الذي وصف فيلم "لقطة قريبة" للمخرج كياروستامي بأنه: "أعظم فيلم وثائقي يدور حول الإخراج السينمائي شاهدته في حياتي".
يعود الفضل إلى فيلم "أين بيت صديقي؟" في شهرة المخرج عباس كياروستامي، علماً بأن الفيلم من إنتاج عام 1989 وبأن هذا المخرج قدّم باكورة أفلامه الروائية عام 1972.
الشخصية المحورية في فيلم "أين بيت صديقي؟" هو الطفل أحمد البالغ من العمر ثماني سنوات والذي يقوم بدوره الممثل الطفل بابك أحمد بور ببراعة وحساسية نادرتين. تقع أحداث فيلم "أين بيت صديقي؟" في قرية كوكر الإيرانية الصغيرة حيث يبدو على أحمد التأثر البالغ حين يقوم مدرس الصف بتأديب صديق أحمد لأنه لم يكتب واجبه المدرسي في دفتر الواجب المخصص لذلك ويهدده بالطرد من المدرسة إذا تكرر ذلك.
وعندما يعود أحمد إلى منزله يكتشف أنه أحضر دفتر صديقه معه سهواً ويدرك أهمية إيصال الدفتر لصديقه الذي يسكن في قرية أخرى. وبعد أن يحاول أحمد شرح الموضوع لوالدته ويفشل في افهامها أهمية توصيل الدفتر لصديقه، يغادر منزله خلسةً ويتوجه إلى قرية صديقه في محاولة يائسة لإيجاد بيت الصديق، ولكنه لا يهتدي إليه رغم ذهابه إلى قرية الصديق مرتين.
وفي صباح اليوم التالي يفاجئ أحمد صديقه في المدرسة بتسليمه الدفتر بعد أن يكون قد كتب الواجب المدرسي في الدفتر نيابة عنه. وهنا ينتهي الفيلم فجأة وفي نفس المكان الذي بدأ فيه، وهو غرفة الصف الثاني في مدرسة القرية.
يتخلل الرحلة الطويلة التي يقوم بها أحمد من قريته إلى قرية صديقه مرتين لقاؤه بعدد كبير من شخصيات الفيلم الذين لا يأبه كثيرون منهم به، بل ويتجاهله بعضهم كلياً، في حين يتعاطف معه البعض الآخر ويحاول مساعدته، ومن أبرز هؤلاء الشخصيات جد أحمد العجوز الذي يتحدث مع صديق عجوز عن أهمية العقاب بالضرب في تربية الأطفال، حتى وإن لم يفعلوا شيئاً يستوجب الضرب.
وهناك عجوز آخر يلتقي به أحمد في قرية صديقه ويحاول مساعدته ويرافقه في ظلمة الليل بحثاً عن بيت الصديق، وهذا العجوز نجار متقاعد يستعرض حياته الطويلة من خلال أبواب وشبابيك القرية التي بناها على مدى عشرات السنين.
ينقلنا المخرج عباس كياروستامي في فيلم " أين بيت صديقي؟ " بأسلوب تسجيلي واقعي إلى عالم للأطفال لا يتسم بالضرورة بالبراءة والمرح، بل يقدم عالماً واقعياً غنياً بالأحاسيس واللمسات الإنسانية ولا يخلو من القلق والألم والقسوة، والذي تذكرنا واقعيته بفيلم "سارق الدراجة" رائعة المخرج الإيطالي فيتوريو ديسكا وبفيلم " 400 ضربة" رائعة المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو.
يتوغل كياروستامي في عالم الأطفال، وهو موضوع أساسي يتكرر في أفلامه، لينقل لنا هواجس الطفل أحمد في عالم لا يفهمه جيداً، ابتداء من أمه التي يحاول جاهداً أن ينقل إليها مشاعره دون جدوى عن مسألة تقض مضجعه، وهي أهمية إيصال دفتر الواجب إلى صديقه لما يترتب على ذلك من قرار يؤثر على مصير الصديق، ولكن الأم ماضية في أعمالها ومسؤولياتها اليومية. ومع أنها تسمع ما يقوله إبنها فهي لا تصغي إليه ولا تعيره أي اهتمام، بل تواصل مطالبته بأداء المزيد من الواجبات. ثم هنالك الرجل الذي يقترض صفحة من دفتر الواجب بعد أن ينتزع الدفتر من يدي أحمد عنوة، ولكنه لا يرى أحمد ولا يسمعه حين يحاول أحمد أن يسأله عن عنوان بيت صديقه.
هذا من حيث المضمون، أما من حيث التكنيك فإن المخرج عباس كياروستامي يقدم عرضاً تسجيلياً واقعياً تلعب فيه الكاميرا دوراً حاسماً يتسم بشفافية كبيرة. ففي مشهد التفاعل أو عدم التفاعل بين أحمد وأمه، والذي يستغرق الربع الأول لفيلم "أين بيت صديقي؟" تكاد تكون الكاميرا ثابتة ويمر من أمامها عرض بانورامي حيوي غني بالتفاصيل والحركة والأحاسيس.
وحين يبدأ أحمد رحلته مشياً على الأقدام تقدم لنا كاميرا المخرج كياروستامي وليمة بصرية شاعرية من المساحة والحركة يمتزج فيها العرض التسجيلي مع السرد الروائي ويذوب الاثنان في سينما راقية زاخرة باللمسات الإنسانية الرقيقة التي تستأثر باهتمام المشاهد.
ومن المميزات العديدة الأخرى لفيلم "أين بيت صديقي؟" براعة ممثليه، وجميعهم من غير المحترفين، وعلى رأسهم الطفل بابك أحمد بور.
يجسد فيلم "أين بيت صديقي؟" مفهوم "السهل الممتنع" في السينما. فهو يقدم سردأ لقصة إنسانية بسيطة، ولكن الفيلم ببساطته يرقى إلى مستوى فني رفيع يصل إلى أعماق المشاهد.
ويقدم هذا الفيلم مثالاً جيداً على ما يستطيع المخرج الموهوب أن يفعله بأدوات بسيطة. فقد أثبت عباس كباروستامي أن المخرج المتميز لا يحتاج إلا إلى كاميرا ورؤيا وبصيرة ليقدم فيلماً متميزاً.
وأخيراً، يقدم فيلم "أين بيت صديقي؟" نموذجاً لسينما المؤلف التي يتحكم المخرج في جميع مقوماتها، وهي مدرسة سينمائية نشأت في فرنسا. ولعل ذلك يفسر سبب افتتان السينمائيين بهذا المخرج الإيراني الفذ.