أنا أيضًا، يا خليل، ضدّ المكتبة.
لكن تمردي ليس حادًا، ولا صاخبًا. لا أُكسر الأرفف، ولا ألعن الورق، ولا أجرؤ على رمي كتاب في لحظة سخط.
أنا ضدّ المكتبة كما يُعلن أحدهم رفضه لبيتٍ لم يعد يسعه، لا لأنه يكرهه، بل لأن الجدران ضاقت على صوته، لأن الرطوبة بدأت تسكن في الكتب، لا بينها، بل في نبرة القراءة ذاتها.
أنا ضدّ المكتبة لأنها باتت ثقيلة على ظهري،
كأنني لا أجرجر كتبًا، بل أجرّ نسخًا قديمة مني —
أُناور تلك الذات التي كنتُها حين اشتريتُ هذا الكتاب تحديدًا، أو حين كتبته في قائمة أمنياتي، أو حين وضعته متفاخرة على الطاولة، لا لأقرأه، بل ليقال عني: إنها تقرأ هذا النوع.
المكتبة، يا خليل، لم تعد مكانًا حيًّا. تحوّلت، دون أن نشعر، إلى نصب تذكاري للحبر الذي عبر، إلى قاعة انتظار لا نُحسن فيها التلويح، ولا المغادرة.
لماذا نرتب كتبنا بترتيب الأبجدية، أو حسب الحجم، أو اللون؟ لماذا لا نرتبها حسب ما تركته فينا من قلق؟ حسب عدد المرات التي بكينا فيها ونحن نقرأ؟ حسب تلك الكتب التي لم نُنهِها، لا لأننا لم نحبها، بل لأننا لم نحتملها؟
أنا ضدّ المكتبة، لأنني لم أعد أحتمل فكرة أن تكون القراءة فعل تكديس، أن تصبح الكتب كالحلي: نزين بها جدران ذاكرتنا، لا لنرتديها، بل لنتفاخر بها.
بعض الكتب، يا خليل، لا تعود كتبًا… بل تصبح مرايا،
لكنها لا تُريك وجهك كما هو، بل كما كنت يوم التقيت بها أو حاولت ذلك. بعضها يعرّيك، لا بفضحك، بل بتذكيرك أنّك لم تعد الشخص الذي اعتقدتَ أنك ستكونه. أعود إلى مكتبتي كمن يعود إلى مكان جريمةٍ قديمة. أطالع أغلفة الكتب التي اشتريتها في نوبات شغف أو ذعر من الفراغ، ألمسها بأطراف أصابعي، كمن يوقظ نائمًا لا يعرف إن كان سيغضب حين يُفتح.
بعض الكتب تنظر إليّ، لا بعيني المؤلف، بل بعينيّ القديمة. تسألني، بصمتها المربك: "أين ذهبتِ منذ قراءتي؟ من أصبحتِ؟ ولماذا لا تعودين إليّ؟"
"أخشى أن أتحوّل إلى رجل يعيش وسط كتب لا يقرأها، ولا يعود قادرًا على مغادرتها"، كما يعتقد صويلح. وأنا أرتجف من هذه الجملة، لأنني أشعر — سرًا — أنها كُتبت عني، حتى وإن لم أكن المقصودة.
نعم، أكتب كل يوم، لكن قلبي لم يعُد يقرأ كما كان. الكتب التي كانت تنهمر داخلي كأنها نهر، أصبحت اليوم تطرق الباب، ولا أحد يفتح لها. هل هذا ما يحدث حين تكبر اللغة فيك أكثر من اللازم؟ حين يصبح الحبر مجازًا ثقيلًا؟ حين تتحوّل القراءة من حُبٍ نهم، إلى طقسٍ من الالتزام، أو، في أسوأ الحالات، إلى شهادة على انقطاع الوصل؟
بعض الكتب لا تقرأك، ولا تنتظر أن تُقرأ، بل تُقيم فيك كندبة… كصوتٍ لم تكتبه، لكنك سمعته بوضوح، ثم خفتَ أن تُعيده.
الكتب لا تكبر معنا، تظلّ على حالها: الغلاف كما هو، العنوان كما هو، الفهرس لا يتبدل. لكننا نحن… نتماهى ونتغيّر ونتآكل، نعود إلى النصّ نفسه، فنفشل في محبته كما أحببناه أوّل مرة، أو نقرأه وكأننا نقرأه للمرة الأولى، مع أنّ علامات القلم الرصاص تشهد على لقاءٍ قديم. المكتبة لا تعرف أنني تغيّرت. أنني أصبحتُ امرأة تبحث عن الجمل التي تُصيب، لا الصفحات التي تُدهش. أنني لم أعُد أطلب من الكتاب أن يكون عظيمًا،
بل أن يكون صادقًا، هادئًا، قابلًا للجلوس بجانبي دون ضجيج بلاغيّ. أحيانًا أنظر إلى كتب النقد التي جمعتها خلال دراستي، كأنني أنظر إلى بدلة ضيّقة لم أعُد قادرة على ارتدائها. جمعتُ تلك الكتب لأقول لنفسي إنني أعرف، أنني مثقفة، قارئة، "مُلمة". لكنني اليوم لا أريد أن أُلمّ بشيء، أريد فقط أن أتنفّس دون أن يُسأل عقلي عن مرجعيّاته.
كنتُ في الماضي أقرأ لأفهم، ثم صرت أقرأ لأكتب، ثم لأُثبت أنني ما زلت "أقرأ". أما اليوم… فأنا أقرأ لأبقى على صلة، ولو بخيطٍ رفيع، بالفتاة التي كنتُها قبل أن تتشظّى اللغة في رأسي.
الكتب لا تُقاس بطول الرفوف، ولا بعدد الصفحات، ولا حتى بكونها مقروءة أو لم تُمسّ بعد. الكتب الحقيقية تُقاس بما تفعله بك حين تُقاطعك الحياة. تلك التي تبقى في الذاكرة ليست بالضرورة تلك التي أعجبتنا، بل التي أرعبتنا، تلك التي قرأناها فجأة كأننا نقرأ أنفسنا على حين غفلة. أنظر إلى مكتبتي كما ينظر أحدهم إلى بيتٍ جمعه وأثثه واعتنى بزواياه، ثم لاحقًا، لم يعُد يشعر فيه بالدفء. كلّ غلاف هو شهادة. كلّ عنوان جدار من زمنٍ مضى.
أخجل من عدد الكتب التي لم أُنهها. لكنني بدأت أؤمن أن عدم الإنهاء… ليس نقصًا، بل علامة. بعض الكتب يجب أن تُترك ناقصة، كالحوارات التي توقّفنا عن خوضها لأن القلب لم يعُد يحتمل. حين تُحب كتابًا فعلًا، أنت لا تنهيه. أنت تُغلِقه في الصفحة التي تشبهك أكثر، وتتركه مفتوحًا في داخلك.
صويلح لم يكن يقيس مكتبته بالأرقام، بل بما لم يعد قادرًا على تحمّله منها. يرتبُ مكتبته لا لتبدو أجمل، بل ليعرف ما إذا كانت ما تزال قادرة على البقاء بين هذه الكتب. وأنا أيضًا، حين أُعيد ترتيب رفوفي، لا أفعل ذلك من أجل الترتيب، بل كي أكتشف: هل لا زلت أُجيد العيش بين هؤلاء؟ أم أنني أصبحت غريبة عن الكتب التي كانت ذات يوم كلّ عائلتي؟
ربما لهذا نُعيد ترتيب المكتبة في لحظات الحيرة،
ليس بحثًا عن النظام، بل عن تذكير: بأننا كنّا نؤمن بشيء… ونحتاج أن نراه مجددًا، ولو في صفحة منسية.
يُقالُ في الغالب:
"أن تكون كاتبًا يعني أن تقرأ حتى تتورم."
وأنا أتساءل الآن: هل تورمنا من فرط القراءة؟ هل أصبح الجمال في الكتب مؤلمًا؟ كأن اللغة، إن لم تُصادفك من الداخل، تتحوّل إلى قيد مطرّز؟
اليوم، لا أريد أن أكون القارئة التي تعرف كل شيء، بل تلك التي تعرف متى تتوقّف، وتعرف كيف تصمت أمام كتاب لم يفهمها، ولا تريد أن تفهمه. أكتب لأنني لم أعد أجد نفسي في ما أقرؤه، وأحتفظ بالكتب لأنني ما زلت أخاف أن أفقد الباب المفتوح نحو صوتٍ يشبهني.
ليس كل ما في المكتبة ضدّي، لكنّ أكثره لا يتذكّرني.
الهامش يا خليل، هو مكاني الحقيقي. لم أعد أبحث عن موضع في المتن، لا أريد أن أكون الفكرة الرئيسة، ولا القارئة النموذجية التي تنهي الكتب وتكتب مراجعة مطوّلة ثم تضع النجوم الخمس.
أنا الهامش. حيث تتسرّب الجمل التي لم تُقل، وحيث تبقى الأسئلة مفتوحة حتى بعد أن تُغلق الصفحة. المكتبة، كما قلت، صارت ضدّك، وأنا… لا أملك هذا اليقين بعد. ربما ليست ضدّي، لكنها لا تُنصت كما اعتادت. صارت تكرّر نفسها، أو لعلّني أنا من أصبحت أقل اندهاشًا. فالكلمات التي كانت تُربكني، أصبحت تمرّ عليّ وكأنها ظلال قديمة أعرفها من قبل، لكنني لم أعد أملك رغبةً في تحيّتها.
أترك الآن هوامش كثيرة في دفاتري، وكلّها تقول الشيء نفسه: أنني أبحث عن الجملة التي تخصّني وحدي، عن صوت لا يشبه صوت السوق، عن قراءة ليست استهلاكًا، بل محاولة للنجاة. فيا خليل، حين ذكرت فيما معناه أنَّ: كل هذه الكتب صارت ضدّي، بينما كنت أظنّ أنها في صفي.
أردتُ أن أضيف:
لكن ثمة كتاب واحد لم يكتب بعد، كتاب ينتظر أن أجرؤ على كتابته، كتاب لا أضعه على الرف، بل أكتبه على اتّساع روحي. ذلك هو الكتاب الوحيد الذي سيعرفني، وسيعرف أنني، يومًا، كنت ضدّ المكتبة… لكي أكون أخيرًا في صفّي.