كتب روبرت براوننغ في قصيدة "أندريا ديل سارتو" من مجموعته الشعرية رجال ونساء الصادرة عام 1855، عبارة، لم يدرك براوننغ إلى أنها ستصبح حية، تتمشى في الشوارع، ترتب فضاء الأمكنة، وتمثل ركناً مهماً في فلسفة العمارة الحديثة.. حيث ستكون لافتة تدل على أشهر معماري القرن العشرين.
روبرت براوننغ هو شاعر ومسرحي إنجليزي، أظهر اهتماما مبكراً في الكتابة، وجرّب في القصيدة، مما لا يخلو من تأثير فيما بعده. اتبع أسلوب الحوار الفردي المسرحي "المونولوج" في أكثر أعماله شهرة. ومن جملة الأعمال التي كتبها بهذا الأسلوب كانت قصيدة "أندريا ديل سارتو"، القصيدة التي تتمثل في حوار بين أندريا وزوجته لوكريشيا، يقول ديل سارتو في أحد مقاطعها: "حسناً.. الأقل هو الأكثر يا لوكريشيا، أنا محكوم عليّ".
لم يكن صدى الجملة، عابراً عند المعمار الأمريكي ميس فان دير روه، الذي يعده المختصون ممن أسسوا لعمارة مغايرة شكلاً وتأثيراً. من بين الأعمال التي نفذها، كان، بافيليون برشلونة (إكسبو إسبانيا، 1929)، مكتبة مارتن لوثر كنغ الابن في شيكاغو، والمعرض الوطني الجديد في برلين.. يظهر أيضاً بين هذه المباني، منزل، يبدو كما ورقة تساقطت.. بناء يسوّره الشجر وتلفّه الغابة، منزل فارنسورث في إلينوي.
يتهادى إلى المرء من الرؤية، صوت خفيض.. يحرض على تأمل الشعر، في حدائقه الخلفية.. وقت يلهو كما الطفل ويمرر يده على ما لم ننتبه إليه بعد. تذهب بنا كلمات براوننج، إلى القصيدة في واحد من مفاهيمها، وقت تكون احتجاجاً على عدم صيرورة الحلم واقعاً. وما يتراءى في ظل هذا المفهوم، قدرة القصيدة حين تخفق في هذا، تحيل ما في طريقها إلى رموز وتؤسس لعالم آخر، تكون الكلمة فيه بيتاً، والجملة مدينة كاملة..
في العبارة، "الأقل هو الأكثر" إيماء يلوّح بخفة، يدعونا، لإظهار حقيقة الأشياء التي تخصنا.. أو تلك التي ندعي أنها كذلك، فتصبح تذكيراً كي نفكر فيما نمتلك، فضلاً عن إيماننا بأهمية وجوده. قد لا يكون المرء مؤمناً بتمثل هذا المبدأ، لأننا محملون بالحنين دائماً، وترتيب الأشياء هذا يتطلب التخلص، إلّا أنه باعث على أن ننظر من مكان آخر، فالخزانة ليست كما هي حين تمر العبارة الشاعرة. وترتيب الخزانة يبدو معادلاً لما تتمثله الحياة، مروراً بالعلاقات وليس انتهاءً بالحاجيات على سطح المكتب.. يقول محمود درويش "رياح الخريف تكنس الشارع، وتعلّمني الحذف. الحذف كتابة".
ومن مسافة أقرب لجملة روبرت براوننغ، يحرض هذا التخفف الذي تحمله، على إنشاء علاقة فريدة مع ما حولنا.. تفضي هذه العلاقة إلى ألفة مغايرة، تلتقط النادر وتعنى بما أهمله العالم، فتأصل علاقة الإنسان بما حوله. يقول ديريك ولكوت، في عبارة تضع يدها على ما أُغمِضَ عنه "اكسروا آنية الزهر، ثم أعيدوا ترتيب القطع بالغراء، ستبدو أجمل". يمسح شاعر سانت لوسيا، تلك الجزيرة الوديعة على سواحل الكاريبي، الغبار، ويهب ما في اليوم، حضوراً آخر.. أكثر ضوءاً وطمأنينة.
ينثر الشعر، حبّاته، أعني الكلمات، فتنزل عندها الطيور آمنة، ما يجعلها تحلق، فتصبح بهذا قريبة مما تريد. لا تكف هذه اليد عن الإشارة، لا تنفك أن تبحث عن العين التي تفهم ما تريد. تمنح الجملة، خيار أن تكون الأوقات أكثر هدوءاً.. فهي لا تدل الشعر وحسب، بل تحرض من خلاله على أن يكون الكائن أكثر قرباً لما يعنيه. فتضع اللحظة لوناً، على طرف الطاولة. فترتب بهذا، المشهد.. وتمنح الكلام فرصة، أن ينمو كما النبت في جدار حياتنا.