تخيّل أن تعليقاً ساخراً تحت مظلة المزاح على أحد تطبيقات التواصل الاجتماعي قد تدخل أحدهم في حفرة مظلمة وتجعل الأفكار المؤذية تحاصر عقله وتُدمّر داخله حرفياً وتجعل ثقته بنفسه تتبخر في لحظة واحدة كأنّ العالمَ كلَّه قد تآمر عليه ليجعله آخر شخص في مجرة درب التبانة يمكن النظر إليه أو الشعور بوجوده، قد يبدو الأمر عند الوهلة الأولى أنه رد فعل مبالغ فيه لكنه في الواقع حقيقة يعيشها مئات الشباب اليافعين الذين يتعرضون للتنمر الإلكتروني كل يوم وفي كل مكان في هذا العالم، هذا النوع من التنمر الذي يترك أثراً عميقاً على نفسية المراهق وعلى أدائه الدراسي وعلاقاته الاجتماعية.
تُعرّف منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) التنمّر الإلكتروني بأنه التنمر باستخدام التقنيات الرقمية والذي يمكن ان يحدث على وسائل التواصل الاجتماعي، ومنصات التراسل، ومنصات الألعاب الإلكترونية، والهواتف الخلوية. وهو سلوك متكرر يهدف إلى تخويف الأشخاص المستهدفين أو إغضابهم أو التشهير بهم.
ومن بين الأمثلة على هذا النوع من التنمّر:
- نشر الأكاذيب أو نشر صور محرجة لشخص ما على وسائل التواصل الاجتماعي
- إرسال رسائل أو صور أو مقاطع فيديو مؤذية أو مسيئة أو تهديدات عبر منصات التراسل
- انتحال شخصية أحد ما وتوجيه رسائل دنيئة للآخرين باسمه أو من خلال حسابات وهمية
- ممارسة التحرش الجنسي أو التنمر باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي.
وكثيراً ما يحدث التنمّر الشخصي والتنمّر عبر الإنترنت متزامنين. بيد أن التنمّر عبر الإنترنت يترك بصمة رقمية، أي سجلاً يمكن أن يكون مفيداً وأن يوفر دليلاً من أجل إيقاف الإساءات.
نختلف نحنُ البشرُ في ردود أفعالنا وطرائق تعاملنا مع ما نتلقاه ونستقبله سواء في التعاملات المباشرة أو عبر الوسائل الإلكترونية فكل واحد منا قادم من خلفية اجتماعية معينة ونتسم بصلابة نفسية متفاوتة وطريقة تفكير مختلفة وآليات دفاعٍ نفسية تكون إسقاطًاً لطريقة النشأة الأولى لنا، كما أن سلوكنا تجاه هذه الاعتداءات وما يتركه من أثر علينا يكون مرآة تكشف مخاوفنا ونقاط الضعف لدينا ومدى هشاشتنا النفسية، لذلك فتعاطينا مع موضوع التنمر يكون مختلفاً جداً، قد نجد شخصاً يأخذ الموضوع بشكل ساخر ويقوم هو بدوره أيضاً بالتنمر على من تنمر عليه في حين أن شخصاً آخر قد يلقي به ذلك في دوامة من الشكوك ومخاوف الإقصاء وأن يصبح موضوع سخرية مستمرة من طرف أقرانه وبالتالي فقدان للثقة.
غالباً ما يدفع التنمر الإلكتروني اليافعين إلى إنفاق الاكتئاب، القلق، والعزلة وهو من الآثار النفسية التي تجعل هذا الشخص المتنمر عليه يعاني من ضعف التركيز وتشتت الانتباه وبالتالي تراجع تحصيله الدراسي الذي من المفترض أن يكون أولى أولوياته ويضع كل تركيزه وطاقته عليه في هذه المرحلة العمرية الحساسة والفاصلة والتي من الممكن أن تحدد شكل مستقبله وأي خلل يمس هذه المرحلة تقوده إلى مزيد من الانسحاب الاجتماعي سواءً من الأصدقاء أو من المحيط العائلي وكل ذلك يحدث بالتدريج ان لم ينتبه له البالغون المتواجدون في محيط هذا الفرد اليافع قليل التجربة ومحدود الخبرة الذي يحتاج إلى التوجيه.
يتحمل المسؤولية بالدرجة الأولى الأهل الذين من الواجب أن يكونوا على اطّلاع دائم للتحديات التي يواجها أبناؤهم ويقومون بواجبهم المتمثل في الحماية والتوجيه واعدادهم نفسياً وفكريا وتمكينهم من خلال اكسابهم مهارات تسمح لهم بالتفاعل بشكل صحي وأكثر توازنا مع هذا النوع من الاعتداءات وعدم الذهاب إلى ردود فعل متطرفة قد تستمر تبعاتها في ملاحقة الفرد منهم طوال حياته.
يجب على الأهل أن يستمروا في التواصل مع مدرسة أبنائهم والبقاء على اطلاع على أدائهم الدراسي وتفاعلاتهم الاجتماعية داخل الفصل الدراسي وخارجه وعدم إهمال ذلك أبداً فالتدخل المبكر قد يجنبنا كثير من النهايات التي تعتبر مأساوية بشكل عميق لكثير من قصص التنمر الإلكتروني الذي يكون وقعه ثقيلاً على نفسية الأفراد صغار السن من الجنسين (ذكوراً وإناثاً) لأنها صعبة الاحتواء عند حدوثها داخل العوالم الرقمية وأمام جمهور يصعب السيطرة عليه لأنه لا أحد يتضرّر أكثر ويتحمل عواقب هذا السلوك غير الذي يقع عليه التنمر فلم يعد العالم الالكتروني في معزل عن عالمنا الحقيقي وأحداثه يمتد تأثيرها حتى بعد إطفاء ذلك الجهاز المتصل بشبكة الانترنت، التوعية ضرورية على مستوى الأفراد والجمعات ومسؤولية ذلك يتقاسمها الجميع.
في مراحل الطفولة المبكرة، قد تمر بنا أحداث تبدو في ظاهرها عابرة، لكنها تتحول لاحقاً إلى عنوان كبير يرافقنا طوال الحياة. فكثير من صراعاتنا النفسية تعود جذورها إلى مواقف مفصلية لم ننتبه إلى أثرها حين وقوعها. وقد يكون هذا الحدث مجرد كلمة قيلت على سبيل المزاح الثقيل، لكنها تنغرس في أعماقنا، لتتشكل منها لاحقاً معتقدات راسخة عن ذواتنا دون أن ندرك ذلك.