لَيسَت اللّغة أداةً للتّواصل والإبلاغ والإبانة عن الأشياءِ فَحسب، كمَا جَاء في تصنيف النُّقادِ المعاصرين، بل هي أشبهُ بالعصا السّحرية التي تكفل لصاحبها، مُداراةَ السّلاطين ومُحَاجَجَةَ الخُصومِ، والفِكَاك من الأزماتِ خاصةً في ظلِّ اِحتدامِ السِّجالات الفكريّة والفلسفيَّة في العصرينِ الأمويِّ والعبَّاسيِّ، كمَا تتَّسم شعرية العربِ بجودتِهَا البلاغيّة وعمقِ متصوّرها الأسلوبيِّ الذي ينتزعُ المعانيِّ وفق مَنحى إدهاشيِّ مأهولٍ بالرمزيَّة الاستعاريَّة.
أضَحَت اللُّغة بِمُستَويَاتِها البلاغيَّة والمعجميّة والصرفيّة طوقَ نجاةٍ تضمن لمُتكلِّمها إنقاذَ رقبتهِ مِن مقصلةِ الإعدام، حيثُما تَجاوز المحظور مع الملوكِ والوِزَراء، إمّا سَهوًا أو تعمُدًا. وفي هذا المقامِ يُروَى أنّ الحجَّاج بن يُوسف الثَقفيِّ نزل مع جندهِ للتنزُّه، إذْ لقي شَيخًا مِن بني عجلٍ، فتعمَّد إلقاءَ بعض الأسئلة عليهِ مُستغلّاً جَهلَهُ بِالوفدِ:
الحجّاج: كَيفَ تَرونَ عُمَّالكم؟
الشيخ: شرُّ عمالٍ! يظلمون النّاس ويستحلُّون أموالهم.
قال معقّبًا: فَكيف قولُكَ في الحجّاج.
الشَّيخ: ذاكَ ما وليَّ العراق شرٌّ منهُ، قبَّحهُ الله.
ردّ عليه الحجَّاج: أتعرفُ من أَكُون، أنا الحجَّاج الذي للتوّ قَدَحْتَ فيه أيها الشّيخ.
استرهبَ الشَّيخ المُعضلةَ التي وضع فيها نفسه، فَما كانَ لهُ إلَّا الاِستعانةَ بطُرفةٍ نادِرةٍ حيث أجَابَهُ في الحين: وأنا فُلان بن فلانٌ مجنون بني عجلٍ أُصرَعُ كلّ يومٍ مرَّتينِ.
ضحِكَ الحجَّاج، اِستساغ كلامهُ، ثم أمر لهُ بصلةٍ.
نستنتِجُ من الواقعة أنّ الشّيخ يملك من الحنكة اللغويَّة والبراعة البلاغيّة ماجعلتهُ يهزم الحجّاج بهيبتِهِ، وينقلَ المُساءَلةَ من طورِ الجدِّ إلى طورِ الهزل مُتجَاوزًا العقوبةَ التي كانَ سيطبِّقهَا عليه. ومتى رَاعى الخَطيبُ المواقف المؤطِّرة للحديث، اِستطَاعَ أن يستجلبَ الثَّناء من طَرفِ السَّامعين فقد وَقفَ عاملٌ بالقصر بين يدي هارون الرّشيد ومعهُ حِزمةٌ من الخيزُران، فَسَألهُ الخليفة: وما ذاكَ بينَ يديك؟،ردَّ العامل بحصافةٍ: عُروقُ الرِّماح يَا أميرَ المؤمِنين.
فكنّى عَن الخَيزُران بعروقِ الرِّماح مخافَةَ أن يغضِبَ هارون الرَّشيد لأنَّ الخيزُران يُوافقُ اِسم أمِّه.
تَجرُّنا تلك المُحَادثَةُ لحقيقةٍ مفادها أنَّ العرب قديمًا هُم من أرقى الشُّعوبِ في اِنتِقاءِ أطايبِ الكلام استشعارًا لمنزلةِ المُخاطَبِ وثِقلِ وزنِهِ السِّياسيِّ والاِجتماعيِّ.
لعلَّ من المفارقاتِ الطّريفةِ أن تتماهى الأطعمة مع البلاغة في الثقافة العربيَّة، بحيثُ متَى استساغُ اللِّسانُ طعمًا جديدًا أتى بالاستعاراتِ الحصيفةِ والتشابيهِ النّادرةِ، ذكر الأصمعيِّ أنّ أعرابيًّا قدمَ المدينة، فأذاقوهُ أكلةَ الفالوذج وهي طبخة فارسيّة فارهة تحتوي على عسلِ النّحلِ وخالصِ السَّمنِ، فلمَّا استمرىء الأكلة سألوه: هل تعرفُ هذا، فقال: هذا وحياتك صراطُ المستقيم!، أي أنَّ غرابة الأكلةِ استوجَبت بنيةً تشبيهيَّة مماثلة تحاولَ تطويقَ المذاقِ وإلباسهِ لبوسًا مجازيًّا بصيغةٍ إدهاشيّة يتواءمُ مع عمقِ التَّجربةِ .
ومن عجائبِ اللُّغة وفرائدِ الخطاب في البيئةِ العربيَّة أن يقول الجاحظ كلام النّاسِ طبقات، كمَا أنَّ النَّاس أنفسهم طبقاتِ وقد صدق ولاريب، ذلكَ أنَّ المخاطبَ لاينظم كلامهُ إلا تبعًا لمهنتِهِ، ولايستقيِّ ألفاظهُ إلا بحسبِ تخصصهِ العلميِّ والوظيفيِّ، كالمذهبِ الذي سَلكهُ أيُّوب الطَّبيب، حيثُ كانَ يصنعُ دُعاءً رجاءَ تقرُّبهِ من اللهِ عبرَ استدعاء قاموسِهِ الطبيِّ: اللهمَّ اِسقنَا شربةً من محبَّتك، تُسهِلُنَا ذنوبَنَا.
فالإسهالُ، والشُّربُ، هي دِلالاتٌ تتداولُ في الرُّكنِ الصِّحيِّ، أمَّا كبيرُ الوراقينَ، أبو حفصٍ الورّاق فقد سئلَ عن حياتهِ، فلم يُجبهم إلا بشقاء مِهنتِهِ، وكداحةِ يومياتهَا فهي للغنى أطرد، وللفقرِ أقرب: عيشيِّ أضيقُ من محبرةٍ، وجسميِّ أدقٌّ من مِسطرةِ، وجاهيِّ أرقُّ من الزُجاجِ، ووجهيِّ عند النّاسِ أشدُّ سوادًا من الزّاج، وحظيِّ أخفَى من شقِّ القلمِ.
ولا مُريةَ أن يكونَ هذا التضايفُ الأدائيِّ بين المتكلِّم ووظيفتِهِ، وسيلةً انجازيَّة هامة حققَّها العربِ بإخراجهم اللُّغة من فضائها الشكلانيِّ، وموردِهَا المعجميِّ إلى سياقِ تخاطبيِّ يهتم باللغةِ انطلاقًا من حدِّها الاستعماليِّ ومناطِها التَّداوليِّ.
ومن سُننِ العربِ في التأليفِ الشعريِّ اقتناص الألفاظِ السَّاخنةِ وتوريدها في سِياقِهَا الإنشائيّ اجتلابًا لآذانِ السَّامعينِ، وتوتيرًا للمقولِ الشعريِّ حتَّى يبلُغَ مراتِبَ عليَا في الابتكارِ الفنيِّ، والتَّجويدِ اللغويِّ، كما جرى لجريرٍ وهو يمدح الخليفة الأمويِّ العزيز بن الوليدِ بن عبد الملكِ.
يَا آلَ مروانَ إنَّ الله فضَّلكم فضلًا قديمًا وفي المِشعاةِ تقديمٌ.
قومٌ أَبوهم أبو العاصيِّ وأمُّهم جرثومةٌ لا تُساويهَا الجَراثيمُ.
وقد يتوهّم القارىء المعاصرُ بأنَّ المنطوقَ الشعريِّ يكيلُ للخليفةِ هِجاءً مقذِعًا لا مَدحًا مُستَطابًا، ذلكَ أنَّ الجراثيم في بِنيتِها المعجميّةِ الحديثَةِ هي كائناتٌ مجهريّة، مسؤولةٌ عن الكثير من الأمراضِ والعللِ الصحيَّة، لكن المدهش أنَّ اللغة تخضع لنظريَّةِ الارتقاءِ والانحدارِ، فلفظة الجرثومةِ في هذا السياقِ الشعريِّ تدلُّ على الأرومةِ الشَّريفةِ، النَّسبِ العريقُ، الأصلُ السَّاميِّ، ثم إنَّها بعيدَ أرداحٍ منَ الزَّمنِ انحدرت دَلالتُها، وتشوَّه معناها لتؤولَ كما في هيئتِهَا المُعاصرةِ.
وقد وضع العربُ قوافيًا تستنطقُ أسرارَ الحروبِ، وتعايِنُ مخرجَاتِها العجيبةِ، فليسَ كلُّ جيشٍ جرَّارٍ يَتملّكُ نتائِجهَا ويحسِمُ وقائعَها، وليسَ النصرُ مرهونًا بكثرةِ العدَّةِ، وتنوَّع الأسلحةِ والذَّخيرةِ مالم تُحترمُ الخصوم على بساطةِ شأنِها وضعفِ تركيبتِهَا العسكريّة واللُّوجيستيّةِ:
فلا تحقرّنَّ عدوًّا رَماكَ وإِن كاَنَ في ساعديهِ قصرْ.
فإنَّ السُّيوفَ تحزُّ الرِّقاب وتعجزُ عمَّا تنالُ الإبرْ.
الأكيدُ أنَّ المقطوعة الشعريَّة ترومُ النُّصح، وإيقاظَ الضَّمائرِ الغافلةِ التي تستودعُ أماراتِ النَّصرِ في كثرةِ الزَّادِ والبطشِ والقوَّةِ، دونَ تبليغِ النفسِ الصلفةِ مقاديرَ التَّواضُعِ واحترامَ الخصوم، فكم من ضعيفٍ نصرهُ دعاؤهُ، وكم من جيشٍ ضئيلِ العدد غلبَ جيشًا عرمرم نظرًا لدهاء قائدهِ، وحنكةِ مُهندسهِ ، وثباتِ جأشِ أفرادهِ، وفي هذا السياق تأتي المفارقة الإدهاشيّة في البيتِ الشعريِّ لاختزالِ الحوادثِ العجيبة فالسيف مهما لطع الدِّماء، وأسرفَ في حزِّ الرقابِ، لن يقتدرَ عن مجاراةِ مَا تفعلهُ الإبرةِ إذا غُرزت في الجسدِ أو توغَّلت في العروقِ والمفاصلِ على سخافةِ شأوها عند النَّاس.
خِتاما لقد أنتجَ العقل البيانيِّ العربيِّ أساليب لُغويّة ماتعة وشعرياتٍ مائزةٍ، تتراوَحُ بين المُحاجَجةِ، والملاطفة والمُخاتلة وهَذَا تبعًا للسِّياق الذي تجري بداخِلهِ العمليَّةُ التّواصليّة.
قائمة المراجع:
1/ الأبشيهيِّ، المستطرف في كلِّ فنٍّ مُستظرف، دار الأصالة، الجزائر، ط1، 2009.
2/ أبو الفرج الأصفهانيِّ، الأغانيّ، مج:1، دار صادر، بيروت، ط1، 2002.
3/ أبو منصور الثعالبيِّ، اللّطف واللّطائف، تح: محمود عبد الله الجادر، دار الشؤون الثقافيّة، بغداد، ط1، 2003.
4/ عبد السَّلام هارون، كنّاشة النوادر، دار الطّلائع، مصر، ط1، 1984.