لطالمَا تأسَّسَ المخيالُ الغربيِّ عَلى إقامةِ السِّردياتِ المبتذلةِ وحياكةِ الصُّورِ الشاعريةِ الملفَّقة التيِّ لا تفتَأ في إدانةِ الشَّرقِ وتسويدِ ثقافتهِ، وتقدِيحِ أيقوناتهِ الأدبيَّةِ والرُّوحيَّةِ منطلقين من نزعةِ التَّفوق الوهميِّ التي تتسَاندُ إلى تياراتِ الاستشراق المتحيِّفةِ، والأحقادِ التَّاريخيَّة المتراكمة مُنذ صرخةِ بطرسُ النَّاسكِ القاضيةِ بِمحقِ التواجدِ العربيِّ على أرضِ أورشليم في مطلعِ القرنِ الحاديَ عشر.
لكنَّ ظهورَ لفيفِ من الأقلامِ الأدبيَّة في السَّاحةِ الغربيَّة قد عاجلَ بردمِ تلكَ الهوَّةِ، عبرَ التمرُّدِ على تلك الأحكامِ التعسفيَّةِ التي تزدريِّ ثقافةِ الآخر، بل واعتبار الشَّرق مضربًا من مضاربِ الجمالِ الخصب الذي لا بد لهُ أن يكون حاضرًا في مضمار القصيدةِ حتى تَختمرَ فنيًّا وأسلوبيًا، وفي ضوءِ هذهِ الدراسةِ ارتأينا استنطاقَ ديوانَ القصائد المشرقيةِ للشاعر الروسيِّ ألكسندر بوشكين، لبيانِ التشاكلُ الثقافيِّ بين الشرق والغربِ، ومداراتِ التواصلِ وآلياتهِ القمينةِ بتشكيلِ مذهبٍ شعريِّ ينبذُ كلَّ أشكالٍ التعاليِّ المسكونِ بهاجسِ الإقصاءِ والإخضاعِ، فهو وتحت طائلةِ التَّعاطيِّ مع أساليب الشَّاعر الفارسيِّ سعديِّ الشيرازي قال بيتهُ الشاعريِّ الخالد الذي يُحيلُ إلى دفء العلاقاتِ الإنسانيَّةِ:
أنَا وصديقيِّ عِشنَا كأنَّنا
جوزَتانِ في قَشرةٍ واحدةٍ.
وكأنَّه يلهجُ بترانيمِ السَّلامِ، ويعزِّزُ يقينًا لا مظانًا قيمَ التعايُشِ العالميِّ بينَ الشرقِ والغربِ، فوحدهُ الإبداعُ والتفاعلُ الجماليِّ بينَ الشعراءِ والمبدعين كفيلٌ برسمِ تلكَ الصورةِ الحالمةِ "جوزتانِ في قشرةٍ واحدةٍ" لإرغامِ آلةِ الحربِ الشَّعواءِ أن تتوقَّف، فالإنسانيةِ بمؤداها الدلاليِّ صِّدق، توافق، تآلف، تصَاهُر، هي ما عوَّل عليها الشَّاعرِ لهدمِ شريعةِ الموتِ وتجريمِ قوانينَ الكراهيَّة التي تنحو لإلغاءِ الآخر الذي يَختلف عنك في المذهبِ، والعقيدة، واللَّونِ والجغرافيَا.
من الخصائص الفنيَّة اللَّافتَةِ في شعر الأديبِ الروسيِّ بوشكينِ هو تشابكهِ الجماليِّ والأسلوبيِّ مع الخطابِ القرآنيِّ، حيثُ لا يتوقَّفُ الشَّاعرُ من المتحِ من معينِ القرآنِ الكريمِ معجما وتركيبًا وبلاغةً ومن ثم يعيدَ توضيبَ تلكَ الوصفةِ الشعريةِ العجائبيةِ وفقَ سياقِ نصيِّ بديع يأسِر القارئ ويُدخلهُ في دوامةِ التلقيِّ الإيجابيِّ الذي يخوِّله استبصارَ آفاقَ النَّص الجديدِ:
أُقسمُ بالشَّفعِ والوترِ.
أُقسِم بالسَّيفِ والحربِ.
أُقسمُ بنجمةِ الصُّبح.
أُقسِمُ بصلاةِ المساءِ.
لاشكَّ أن التَّواصيِّ بأسلوب القسمِ تأسِّيًا بآي القرآنِ هو الكفيلُ باستنباتِ أسلوبٍ توكيديِّ يوحيِّ جليًّا بارتهانِ الشَّاعرِ لمنهجٍ استدلاليِّ لإشعارِ خصومهِ بنبلِ الرسالةِ التي يرافعُ لأجلِ تدويلِها في هذا العالمِ الخربِ، الآهلِ باستعاراتِ العنفِ وهو الذي حُرمَ من ملاقاةِ حبيبتهِ أولينَا أوسيبوفَا ، فكَمَا أنَّ القرآن الكريم نزلَ موائمًا لسننِ العربِ في الإبلاغِ فهي إذا أرادت أن تُؤكد أَمرا راهنت على القسمِ، نجدُ أن الأديبَ الروسيِّ تبنَّى هذا الأسلوبَ لبثِّ الوجلِ في خصومهِ من جهةٍ ممن أثنوهُ على مواصلةِ من شغفَ قلبهُ بها ، والاسترشادَ بالطاقةِ الدَّلاليَّةِ والجماليّةِ والشُّعوريةِ التي يُمكنُ لهذا النوع الأساليبِ تمكينَها في قلبِ السَّامعِ من جهةٍ أخرى.
علاوةً على ذلكَ يشدُّ الشاعرُ بعضدِ السيرةِ النبويَّة إعجابًا بمقامِ محمد الاجتماعيِّ، والطَّهرِ الذي لامسَهُ عبرَ معاينتهِ التاريخيَّةِ لبيتِ النبيِّ، وخصال زوجاتهِ اللواتيِّ يتَّصفنَ بالطُّهرِ والعفافِ، والارتكانِ لتعاليمِ القرآن في الاحتجابِ وسترِ العورةِ، والنأيٍّ عن مجالسِ الرِّجالِ:
يَا نِسَاء النَّبيِّ الطَّاهراتِ.
أَنتُنَّ عن كُلِّ النساءِ مُميِّزاتِ.
شَديدٌ عليكُنَّ ظلُّ النَّقيصةِ.
في الظلِّ الجميلِ للسَّكينةِ.
عِشنَ بتواضُعٍ، فُرضَ عليكُنَّ.
أَيُّتها العذارىَ الحِجَاب.
تتخلَّلُ المقطوعة الشِّعرية بُنى أسلوبيةِ جاءت في هيئةِ الاعترافِ بمناقبِ نساءِ النبيِّ، فهنَّ نماذجُ حيَّة على شأوِ المرأةِ المشرقيةِ، ورفعتها الأخلاقيَّة والاجتماعيةَّ، إذ يكشفُ تواجدها في النَّص الشعريِّ عن ضُلوعهِا في إنجاحِ الرسالةِ المحمديَّةِ، مُذ زواج النبيِّ الأوَّل بخديجهِ، ودفاعها الضَّروسِ عنه في ذروةِ تآمرِ سادةِ قريشِ عليهِ، ولا مريةِ أن يَغتديَ هذا البوحِ الشعريِّ بمثابةِ القولِ الفصلِ والحكمةِ الرَّادعةِ للطَّاعنينَ في نساءِ الشرقِ أينَ نُلفي عشراتِ السردياتِ المفبركةِ التي تنعتُ المرأة المشرقيةِ باللَّعوبةِ والمتحررةِ المغناج التي تُجيدُ استدراجَ الرجالِ وإغوائهن في شاكلةِ الأديبِ الفرنسيِّ غوستاف فلوبير صاحبُ رواية مدام بوفاريِّ فغداة زيارتهِ لسلسلةِ من الدول العربيَّة كمصر ولبنان وسوريَا سَنة 1849نعتَ المرأة العربية بأنَّها لا تعدو شيئًا سوى ماكينةَ جنسٍ فهي لا تُفرِّقُ بينَ رجلٍ وآخر.
تَنضاف رؤية فلوبير القاصرة عن إدراكِ مكنوناتِ الشرقِ ضمن حملةِ أوربيَّة تتصف بالمغالاةِ في احتقارِ منطقةِ الشرق، حيثُ تحوَّلَ هذا الاحتقار إلى موقفٍ اجتماعيِّ ينخرطُ فيهِ الفردِ طواعيةً دونَما أن يُشَّخص أهداف تلكَ الحملةِ ومنازعها الخفيَّةِ التي تموجُ بعقدةِ التفوَّق كونَ الغربِ يحوز على منهجٍ استغلاليِّ مُؤدَّاه التمتع بمواردِ الشرقِ المعرفيةِ والعلميةِ ومن ثمَّ العمل على إلغائهِ من سدنةِ التَّاريخِ رغبة منهُ في تسيُّد الحضارةِ وَلو بآلياتِ منحازة تتَّسِمُ بالتزويرِ الماديِّ للتاريخِ وتهميشِ الآخر وإن كانَ ذا فضلٍ عَليهِ.
وقد دأبَ الشاعرُ الروسيِّ على مُكاشفةِ الشَّخصيةِ المشرقيةِ وتشريحِ بناها الشعوريةِ فهي قنوعةٌ بعطايَا ربِّها، وإن كانَ رزقُها قليلٌ، لا تتضجَّرُ من الحياةِ وبؤسِها لأنَّها شديدة التعلُّقِ بوصايَا القرآن كما نعاينُ ذلك في قصيدتهِ "مسلمٌ فقير":
منذُ وقتٍ عاشَ في قريةٍ نائيَّة.
مسلِمٌ بائس معَ أولادهِ وزوجتهِ.
بروحهِ قرأ القرآن المقدَّس.
وكانَ سعيدًا بقدرهِ.
تتشخصنُ استهلالية القصيدةِ في منحى التسريدِ المفارق، الذي يجعلُ من تلكَ الشخصيَّة المتخيلة تعيشُ على وترِينِ متضادينِ، جسدٌ مطعونٌ بحرابِ الفقرِ والعوزِ، وروحٌ طلقة لا تعبأ بضنكِ الحياةِ فهي علَى الدوامِ سعيدةً لأنَّها ترتكنُ إلى دستورها الروحانيِّ القرآن، وكأنَّ الغربَ الذي منح لنفسِهِ صفة قطبَ الذاتِ المتمركزةِ على هذا العالمِ قد تَجاهلَ إسرافهُ في تعاطيِّ الفلسفاتِ الماديةِ وما انجرَّ عنها من تقويضٍ لبناهُ الروحيَّة ومرجعيَّتهِ الدِّينيَّة بخلافِ المشرقيِّ المستأنِسِ بالفيوضاتِ الإلهيَّةِ ومدِّها الإشراقيِّ في النُّفوسِ الظَّمئةِ.
ومشفوعًا بالامتداد القرآنيِّ الذي اصطبغَ بهِ شعريتهُ لا يتوانى بوشكينَ في تلقينِ الغربِ المتجبِّر بنوازعهِ الاستعماريَّةِ المنصبَّة على إفقارِ المشرقِ ونهبِ ثرواتِهِ نوازلَ القضاءِ الإلهيِّ، فالطغيانُ والكفر مآلهُما الهوانُ والخزيُّ والتلظيِّ بلهيبِ متسعِّر يلفح وجوههم المتوجِّمةِ:
كلُّ شيء أمَام الله يَحضُر.
مَشدوهًا بالرُّعبِ.
ويَتَهاوَى الكَافرون.
يَلُفُّهم الغُبارُ واللَّهب.
والأعجبُ أن يَتساندَ الشَّاعرَ إلى مداراتِ القصِّ القرآنيِّ، مقتفيًا نمط الحكيِّ، ومتجاوبًا مع مؤشراتِها الفنيَّة في الحبكِ والاختزالِ، والدَّهشةِ السرديَّة، والقدرةِ على ابتعاثِ محاوراتٍ متخمةِ بالدروسِ الربانيَّةِ في الخلقِ والموتِ والنشورِ كقصة العُزير الذيِّ أماتهُ الله مائة عام ثم أحياه ليريهُ عجائبَ خلقهِ فيهِ، كونهُ قدح سؤالا وجوديًّا وهو مارٌ بقريةِ تخطَّفها الموتُ" قَالَ أنىَّ يُحييِّ هذهِ اللَّه بعدَ موتِها؟:
متشوِّقًا ركضَ إلى النخلةِ الصَّحراويَّة.
وبِنهمٍ أنعشَ بتيَّارٍ باردٍ.
عينيِّهِ ولسانهِ الملتهبةِ.
واستلقَى ثمَّ غفَا قربَ أتانِهِ المُخلصةِ.
وانقَضت عليهِ سنونَ عديدةٍ.
بإرادةِ مالكِ السَّمواتِ والأرضِ.
لم يَكتَفِ الشَّاعرِ بنقل القصةِ بحذافيرها بل نفخَ في أوداجِها مؤثراتِ فنيَّة إضافيَّة جديدةِ ترتكنَ إلى البيئةِ المشرقيَّة لإعطائِها بعدًا إنسانيًا ونقلةً أسلوبيَّة تتجاوبُ مع فاعليةِ التلقيِّ الكونيِّ، فمن خصائص الجغرافيَا المشرقيَّة الصحراء الممتدة المعدمةِ الأطرافِ التي تُجبرُ صاحبَها على إذاعةِ الأسئلةِ العميقةِ بِقلقِها الوجوديِّ المتعلقة بالموتِ وإعادة البعثِ، وحياةِ البرزخِ، عَدا عن شحِّ المياهِ وندرتِها والتي تفرضُ على المشرقيِّ التجوالَ في الواحاتِ أملا في الحصولِ علَى مرادهِ، كلُّها مقتضيَات سياقيَّة أوردهَا بوشكين في شعريتهِ للإماءةِ إلى شخصيةِ المشرقيِّ التواقِ إلى إثارةِ الأسئلةِ الفلسفيَّة العنيفةِ والبحثِ عن أجوبتِها الشافيَّةِ، تمامًا كما يبحثُ عن مواطنِ المياهِ، ويتقصَّى مضاربَ الكلأ.
قيَاسًا على ما تمَّ ذكرهُ، نستنتِجُ أنَّ الأدب الغربيِّ لا ينفكُّ يتواصَى بثقافةِ الشرقِ إمَّا تناصًا أو تحاورًا أو تواصَلا متدرِّجًا وهذا بشهادةِ المستشرق الفرنسيِّ أرنست رينان الذي يرى أنَّ الشرقَ ضرورةٌ ثقافيَّة إلا أنَّ التحيُّف السياسيِّ، التحقير الجنسيِّ، الإعلاء الثقافيِّ الذي اعتورَ أغلبَ كتابهِ وأدبائهِ حالَ دونَ نقلِ تلك النظرةِ وفق مرآةِ شفافة تخلو من العنصريَّة باستثناءِ ثلَّةِ من الأدباء المنصفينَ في صورةِ الشاعر الروسيِّ السكندر بوشكين.
نبذة مُقتضبة عن الشَّاعر الروسيِّ.
هو السكندر بوشكين من مواليد 1799 يُنتسِبُ لعائلة نبيلةِ، أُدخل إلى مدرسةِ الليسيَّة هناكَ في إقليمِ لينينغراد، بمجرَّدِ تخرجهِ عملَ في سلكِ الخارجيَّة، لكنه انتسب إلى جماعةِ أدبيَّة سريَّة تنابذُ سياسةَ القيصر. بمجرد أن عَلمَت الحكومةِ بتورطهِ في مع هذا الفصيلِ السِّياسيِّ المعارض تمَّ نفيهُ إلى القوقازِ، وهناكَ تبلورَت ذائقتُه الأدبيَّة أين احتكَّ مع إثنيَّاتٍ قوميَّة مختلفة كشعوبِ الشركسِ والغجر والشَاشاَن، قالَ عنهُ الروائيِّ العظيم دستوفيسكيِّ إنَّه واحدٌ من بينِ الشعراءِ القلائل الذي يَملِكُ خاصيَّة التَّقمص في قوميَّة غريبةٍ فقصائده متعدِّدة الأصواتِ غنيَّة الثَّقافاتِ، توفيَ سنة 1837بعدَ إصابَتهِ بطلقٍ ناريِّ.