ما الذي يجعلني سعيدًا؟ لماذا أفكر بهذه الطريقة؟ هل كل إنسان حر؟ هل نحن من شكل أنفسنا، أم أننا شُكلنا بطريقة ما؟ هذه بعض الأسئلة التي تشكل وجودنا البشري، أسئلة عميقة، التفكير فيها بشكل فاعل يساعدنا على عيش الحياة بطريقة أفضل. الأفضل هنا تحدده أنت، كل "أفضل" عائد بقراره وطريقته على الكائن البشري؛ عائد عليك أنت.
قبل البدء في قراءة هذا المقال، أكرر عليك السؤال الأول: ما الذي يجعلك سعيدًا؟ قف لبرهة وفكر وأجب. لنرى إن تغيرت الإجابة بعد الانتهاء من قراءتك للمقال.
الفلسفة والفلاسفة سألوا هذه الأسئلة سابقًا، كان جل اهتمامهم في كيفية العيش بسعادة، كيف تعاش الحياة؟ كيف نصل إلى السعادة؟ الفلسفة تساعدنا على التفكير بشكل علمي، بمنهجية وعقلانية، بمنطق أكبر. المنطق فرع شديد الأهمية في الفلسفة، فنحن بنو البشر نبني حياتنا على اختيارات وقرارات وأفعال توصلنا إلى ما نحن عليه في كل لحظة. فمثلًا، كل قرار واختيار وفعل اتخذته في حياتي كان سببًا في كتابة هذا المقال، وكان سببًا في قراءتك له.
الفلسفة غالبًا ما يتم تصويرها على أنها غول بشع المنظر، أو كأنها فاكهة حامضة الطعم تقلص عضلات وجه آكلها. لا يأتي ذلك التصور من فراغ أبدًا. فالفلسفة بفروعها، كالميتافيزيقيا (ما وراء الطبيعة) أو الابستمولوجيا (نظرية المعرفة) أو المنطق أو غيرها، كلها مربكة ومركبة. ولأن فهم الفلسفة عملية تراكمية، فإنها قد تصبح شديدة التعقيد.
كعادتها، تساعدنا الكتب على التغلب على ذلك الغول، فتأخذ بيدنا لنصعد سلم المعرفة قليلًا قليلًا، فنقرأ ونتعلم ونستزيد. وكأي موضوع آخر، تتدرج كتب الفلسفة في صعوبتها، فكثيرًا ما ينصح بقراءة روايات فلسفية سهلة مثل رواية "عالم صوفي" للكاتب النرويجي "جوستاين غاردر". اليوم أقدم لكم كتابًا يتناول الفلسفة بطريقة سلسلة: عزاءات الفلسفة للكاتب آلان دي بوتون وترجمة يزن الحاج.
يبدأ دو بوتون بداية موفقة باختيار عنوان جاذب "عزاءات الفلسفة"، يدرك دو بوتون بأن البشر بحاجة دائمة للمساعدة، فيعزز ذلك في العنوان الثانوي "كيف تساعدنا الفلسفة في الحياة".
للأمانة، لم يكن دو بوتون أول من استخدم هذا العنوان، فقد سبقه في ذلك بوثيوس (Boethius) فيلسوف وسياسي روماني فكتب كتاب (عزاء الفلسفة)، إلا أنه استعرض فلسفته الخاصة، على النقيض من دو بوتون الذي استعرض فلسفة 6 من أشهر الأسماء التي ذاع سيطها في الوسط الفلسفي وكان لها أثرًا كبيرًا في التأثير على العديد من المهتمين بالفلسفة: سقراط وأبيقور وسينيكا ومونتين وشوبنهاور وأخيرًا نيتشه.
سقراط والعزاء بشأن مخالفة الآراء السائدة
سقراط، ومن كمثل سقراط لتكون حياته مثالًا على مخالفة الآراء؟ يتحدث دو بوتون عن سقراط مسلطًا الضوء على أن الحكم الأول على أنفسنا هو نحن، بالطبع دون استعلاء أو استقصاء. ربما كان سقراط هو الدليل الأمثل على أن الغالبية لا تمثل الرأي السديد بالضرورة، بل المنطق هو القادر على إظهاره. أراد سقراط لموته أن يكون صرخة في وجه اللامنطق، تمسك برأيه ليبعث برسالة إلينا وإلى السابقين واللاحقين بأن المنطق لا بد من أن يكون غالبًا.
أبيقور والعزاء بشأن الافتقار إلى المال
عادة ما ترتبط عندنا السعادة بالامتلاك، ولكن أن نمتلك ماذا؟ بيت كبير؟ سيارة فاخرة؟ طائرة نفاثة؟ أين تنتهي حدود المتعة في امتلاك الأشياء المادية؟ وأين تتوقف رغبة الكائن البشري في الامتلاك؟
اعتمدت فلسفة أبيقور على نبذ النماذج والصور المعتادة للسعادة، فالسؤال المعتاد "ما الذي يجعلني سعيدًا؟" قد يبدو سهل الإجابة، فكر قليلًا قبل أن تكمل قراءة المقال، ما الذي يجعلك سعيدًا؟
لدى أبيقور إجابة شاملة عن ذلك السؤال، وضعها في نقاط بسيطة:
• الصداقة.
• الحرية.
• التفكير.
أن نحيط أنفسنا بأشخاص يقبلوننا بعيوبنا وأخطائنا قبل أي شيء، أن يرانا محيطنا كما نحن بلا أي زيادة أو نقصان.
"من بين جميع الأشياء التي تمنحها الحكمة لتساعد المرء على عيش حياة كاملة مليئة بالسعادة، يعتبر امتلاك الأصدقاء أعظمها على الإطلاق".
أما الحرية، المكون الثاني الأساسي في السعادة الأبيقورية، فكأنه تتمة لما سبق ذكره. أن تكون كما أنت، متحررًا من قيود قد يفرضها عليك مجتمع أو عائلة أو صديق. ما قام أبيقور بعمله مع أصدقائه، أنهم اشتروا حديقة قرب منزلهم، وزرعوا ما يكفيهم من خضروات، واستطاعوا الوصول إلى الاكتفاء الذاتي.
أبيقور والأصدقاء ابتعدوا عن ضغط المجتمع، أصبحوا خارج أي صراع؛ السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، تخلصوا من الرغبة في الامتلاك.
التفكير مكون أساسي في السعادة الأبيقورية، يقصد أبيقور في هذا الفعل، أن نحلل المشكلات التي تواجهنا وأن نعطي كل مشكلة حجمها الحقيقي، أن نفكر في المصادر الأساسية للقلق. في حديقة أبيقور سابقة الذكر، كان الفيلسوف وأصحابه يتعلمون تحليل حالات قلقهم بشأن الأمور المادية كالمال وغير المادية أيضًا كالموت والمرض وعالم الخوارق. كان التفكير في الموت سببًا أساسيًا في العيش الزهيد.
لا يفترض أبيقور بأن كل غني بائس ولا كل فقير سعيد، فلن تتسبب الممتلكات المادية ببؤس أحد، إلا أن جوهر فلسفته تمحور حول أن الامتلاك المادي للأشياء من دون أصدقاء أو حرية أو تنظيم حياتنا والتفكير بها، عندها كنوز الأرض كافة لن تشعرنا بلحظة واحدة من السعادة.
لذلك صنف أبيقور الرغبات كالتالي:
• طبيعية ولازمة: الأصدقاء والحرية والتفكير والطعام والملجأ والملبس.
• طبيعية وغير لازمة: مال كثير، قصر كبير إلخ...
• ليست طبيعية ولا لازمة: الشهرة والسلطة إلخ..
يقول أبيقور جملة تلخص فلسفته بشكل عام:
"لا شيء سيرضي الإنسان الذي لا يقنع بالقليل".
سينيكا والعزاء بشأن الإحباط
كلنا نتعرض لخيبات الأمل إذا ما اصطدمت أمنياتنا بواقع صلب وقاسٍ. سينيكا يحطنا علمًا بذلك، ويبحث معنا عن مصدر الرضا وعدمه منوهًا إلى أنه غالبًا ما يكون خارج السيطرة، وأن الخيبات والصدمات لا بد ستصفعنا أيامًا وأيام. تساعد فلسفة سينيكا على أن تهيأ الإنسان على تقبل الصدمات.
يتولد الإحباط غالبًا إذا ما خالفت النتيجة النهائية لموقف ما توقعنا، فنحن بعدم تقديرينا للأمور أو بوضع مستويات عالية لتوقعاتنا نقع في إحباط كبير. لا يعني مثلًا فعل الخير أن ننال خيرًا ولا العكس صحيح.
قد يبدو العالم خاليًا من المعنى، عندما يعاقب صانع الخير ويثاب صانع الشر. الواقع ليس كما نتمناه، ولا يشترط عملنا أن يعود علينا بفائدة نظن أننا نستحقها. سينيكا يبلور هذه الفكرة ويدعونا للتمييز بين لحظتين فارقتين في التعامل مع مواقف الحياة: أن نفرق بين اللحظة التي تستوجب علينا قبول النتيجة النهائية وبين اللحظة التي نكون قادرين على تغييرها للأفضل.
"يجلب الشتاء طقسًا باردًا، ولا بد أن نرتجف. يعود الصيف بحرارته، ولا بد أن نتعرق. الطقس غير الخاضع للفصول يربك الصحة؛ ولا بد أن نمرض. في بقاع بذاتها قد نواجه وحوشًا برية، أو بشرًا أكثر تدميرًا من أي وحش... ونحن عاجزون عن تغيير نظام الأشياء... إلى هذا القانون (من الطبيعة) لا بد لأرواحنا أن تكيّف نفسها، وعليها الامتثال له... ما تعجز عن إصلاحه، من الأفضل تحمله".
مرة أخرى، لا تخضع حياتنا لقوانين وضعناها في رأسنا، الحياة لها قواعدها الخاصة: نكون في غاية الحكمة إذا فرقنا بين ما باستطاعتنا تغييره وبين ما علينا تقبله.
مونتين والعزاء بشأن العجز
ننسى أحيانًا بأن عيوبنا عديدة، وبأن الصورة المثالية في رأسنا هادمة، فهي تبعدنا عن الحقيقة وتجعلنا نسبح في فضاء وهمي. مونتين كتب عن كل ما هو إنساني، كتب عن زوايا لا نتحدث فيها عادة ولا نتطرق إليها، إلا أنها أجزاء تشكل إنسانيتنا.
"حتى على أعلى العروش في العالم نجلس، ولكن على مؤخراتنا".
يتحدث دو بوتون في فصله عن مونتين وفلسفته عن العجز من نواح مختلفة، فيستعرض العجز الجنسي والعجز الثقافي والعجز الفكري. يعاتبنا مونتين على أننا دائمًا ما نضع فعلًا ما في خانة من إحدى الخانتين: الطبيعي واللاطبيعي. من يحدد ما هو الطبيعي؟ ومن نحن لنقرر إن كانت أفعال الأفراد طبيعية أم "غريبة". لذلك لا بد من الإشارة إلى ما قاله الفيلسوف الفرنسي:
"أنا إنسان، لا شيء إنسانيًا غريبًا عني".
كن إنسانًا، كن عاجزًا، مليئًا بالعيوب، فلا يمكن لأحد أن يصيب كبد الحقيقة دائمًا، ولا يمكن لأحد أن يكون قويًا دائمًا.
شوبنهاور والعزاء بشأن انكسارات القلب
أحد أكثر الفلاسفة تشاؤمًا يأتي ليعزي قلوبنا المكسورة. آرثر شوبنهاور ومشروعه الفلسفي "إرادة العيش" هو محور هذا الفصل من كتاب عزاءات الفلسفة. يقول شوبنهاور "ما يتم البحث عنه في الزواج ليس المتعة على المستوى الفكري، بل إنجاب الأطفال".
توصل شوبنهاور إلى نتيجة أن هنالك قوة في دواخلنا تتفوق دومًا على العقل تبدد مراده وتنسف خططه وقد أسمى هذه القوة "إرادة العيش". يلخص دو بوتون إرادة العيش بأنها "قوة شديدة بما يكفي لإحباط جميع خطط العقل وأحكامه... تعرّف بكونها دافعًا كامنًا داخل البشر لإبقائهم أحياء وقادرين على التناسل".
فإذا رفضك الحبيب يومًا، فاعزي ذلك لإرادة العيش أو عملية الانتخاب الطبيعي، الموضوع ببساطة موضوع بيولوجي بحت.
نيتشه والعزاء بشأن المصاعب
بأسلوب سلس جدًا، ترسو سفينة دو بوتون في الميناء الأخير، لتصل عند سليط اللسان وفيلسوف القوة: فريدريك نيتشه. في هذا الفصل، سنحاول أن نقبل كل شيء، نتعلم أن نحتضن حزننا وغضبنا، انكسار قلبنا، تعرضنا للمصاعب مرات ومرات.
كل ما مضى من أحداث أغرقتنا في أحزان ومصائب هي ما تحول الألم إلى معرفة، هي المكونات الأساسية لشخصيتنا. نحن بشكل عام، نسعى إلى التحرر من الألم، لا إلى السعادة كوجهة مباشرة. يقول نيتشه:
"ماذا لو كانت السعادة والتعاسة مرتبطتين معًا بحيث لا بد لكل من يرغب بامتلاك أكبر قدر ممكن من إحداهما أن يمتلك قدرًا مماثلًا من الأخرى... أمامك الخيار: إما أقل تعاسة ممكنة، وقدرًا من الصبر، أو أكبر تعاسة ممكنة كثمن لتنامي فرط اللذائذ والمسرات اللطيفة التي نادرا ما يتم التمتع بها. لو قررت المضي في الخيار الأول آملًا تقليص وتخفيض مستوى الألم البشري، يتوجب عليك كذلك تقليص وتخفيض مستوى قدرتها على تحقيق السعادة".
كل هذا الألم والتعاسة، ما هو إلا طريق نشقه لكي نتحرر. شعورنا اللحظي بالسعادة لا يعني بالضرورة أننا اخترنا أمرًا جيدًا، كما أن ما يؤذينا قد لا يكون عكس ذلك.
إلى البداية مرة أخرى
قد يصف البعض هذا الكتاب بأنه كتاب تنمية بشرية مبهرج. لكن، ألم يسعى الفلاسفة إلى مساعدتنا في فهم الحياة والعيش بسلام داخلي متناغم مع العالم الخارجي؟ الفارق كبير بين التنمية البشرية والفلسفة. في الفلسفة لا تعميم ولا تسخيف للمشاكل، لا حلول سريعة للتخلص من القلق، فالقلق موجود، علينا التفكير بمسببات القلق الأساسية كما أخبرنا أبيقور، علينا أن نسأل ونفند ونمنطق الأمور كما علمنا سقراط. يجب أن نتوقف عن تلقي الإجابات الجاهزة، وأن نسأل ونتساءل. الفلسفة ستساعدنا في الحياة.
هذا الكتاب لا يعطيك قالب الحلوى كاملًا، ولكنه يقدم لك قضمة تجعلك راغبًا في المزيد. فهل سترغب في المزيد؟
والآن إلى البداية مرة أخرى، ما الذي يجعلك سعيدًا؟