لا بد أنك سمعت بروبرت كيوساكي، أو شاهدت مقطعا له على الإنترنت، أو في مكان ما. ربما ظهر لك في حلمك ليتهمك بالفشل والكسل والإهمال، لأنك لم تخلق لنفسك ثروة بعد، واتخذت من الوظيفة او الفقر او الموقع الجغرافي حجة؟ وقمت مسرعا لتتناول واحدا من كتبه التي جاوزت العشرة، وقرأتها بحرص، أملا في ان تنقلب الصفحات إلى دولارات او دنانير حسب اللغة التي تقرأ بها؟
روبرت كيوساكي هذا هو صاحب واحد من أكثر الكتب مبيعا في العالم، الاب الفقير الاب الغني، والذي بيعت منه ملايين النسخ وترجم إلى عشرات اللغات، وليس في ذلك ما يعيبه، غير عيب وحيد هو أن كتابه كان من الواجب ان يصنف ضمن الكتب القصصية والروائية، لا ضمن كتب المال والأعمال والاقتصاد.
لأن الكاتب نفسه اعترف بأن الاب الغني الوارد في الكتاب الذي أعطاه كل تلك الحكمة ونسب له اكبر المشاريع في هاواي، لم يثبت وجوده، فمرة قال انه مات، ومرة أخرى ادعى ان عائلة الاب الغني ترفض اعلان هويته، وفي ثالثة قال ان الاب هو مجموعة شخصيات، وليس بالضرورة شخصية حقيقية، بل حتى أنه في مقابلة صرح قائلا ان الاب الغني هو شخصية خيالية، اقرب إلى شخصية هاري بوتر، رغم ما رواه على لسانه من نصائح وما ذكره من مشاريع استثمر بها واقامها وملايين خلقها من العدم وهو لم يكمل تعليمه، ولم يعترف بذلك الا بعد ان تعرض لضغوط كبيرة من الصحافة، وهو ما يرقى برأيي إلى الكذب، اذا أردنا التأدب، والنصب اذا أردنا الحقيقة!
هذا الكتاب لم يسبق لروبرت ان شكل ثروة قبل أن يكتبه، بل سبق له الإفلاس، بينما خلق له الكتاب الثروة، وجعله واحدا من أكثر الشخصيات طلبا في الولايات المتحدة، وصارت اقل دورة او محاضرة يقيمها تكلف حاضريها ما لا يقل عن خمسة آلاف دولار، ونصائحه المالية تكلف ما لا يقل عن 45 ألف دولار، نعم قرأت الرقم بشكل صحيح، هذا هو مصدر دخله الأساسي، ليس الكتاب بحد ذاته، بل الورشات والدورات، التي يجر اليها المريدين، واعدا إياهم بأسرار النجاح، والحرية المالية.
الاب الغني هذا الذي دفع كثيرين لترك مدارسهم وجامعاتهم وبيوتهم ليتوجهوا إلى بيادر وادي السير بحثا عن الكنز. تعرض للإفلاس أكثر من مرة، اخرها قبل عشر سنوات، حين أعلن إفلاس أكبر شركاته – ليس صدفة أن اسمها كان الأب الغني -بعد أن قاضته واحدة من المنصات التعليمية بتهمة النصب والاحتيال، وحكمه القضاء بدفع غرامة قدرها 24 مليون، بعد ثبوت التهمة عليه.
كل هذا ولم نتطرق بعد للأرقام التي يعرضها في الكتاب، حيث يتحدث عن بيوت بيعت بلا ثمن تقريبا ومشاريع دخلها بلا مال، وهو ما لم يصح اطلاقا لا في حالته ولا في غير ذلك. الاكيد ان جملا مثل لا تعمل من أجل المال، بل دع المال يعمل من أجلك، هي من الجمل ذات النغم اللذيذ، لكنها ليست استراتيجية ولا خطة، ولا، حتى، خريطة لتوصلك إلى أي مكان، ولا تعدو عن كونها خطبا تحفيزية، لا حلول عملية.
كم قارئا للكتاب اختلفت نظرته لأهله بعد أن قرأ هذا الكتاب، وشعر بأنهم ظلموه مرتين، الأولى بإنجابه، والثانية بأن حرموه من الثروة، اذ غالبا نولد أبناء لموظفين، وربّات أسر. وهذا قياس ظالم لأنه كما أسلفت يضعهم في مقارنة مع شخصية خيالية، وفعل ذلك يشبه تماما اتهامك لوالدك بالنقص لأنه لا يطير مثل سوبرمان. اباؤنا في معظمهم لم يفنوا أعمارهم في تكوين ثروة، لأننا كنا ثروتهم، ورأسمالهم، وحلمهم، فلا تحقرن معروفهم، لأجل روبرت ولا مايك، ولا تهتز نظرتك لهم، لأنهم لم ينعموا عليك بالملايين، ولأن قلوبهم الغنية، التي تعبت فيك، لن يزيدها المال قيمة ولن ينقصها اجراً.
وانا هنا لا اسرد كل هذا طعنا في الشخص، وهو ظنين، ولكن لأنقذ ولو قارئا واحدا من ان يسقط في شراكه، ويترك دراسته الأكاديمية طمعا في ثراء مستحيل، او يضيع وقته في بحار الوهم، والبحث عن ثروات لن يحصّلها، أو ديون تسجنه، بينما في الحقيقة والبديهة، حامل الشهادة العلمية يحصل على أضعاف ما يناله غيره من الاقل حظا، ولا تتجاوز نسبة أصحاب الملايين الواحد في المئة من سكان العالم، ولأن فرصتك في ربح المليون او كسبه لن تتجاوز في أحسن الظروف هذه النسبة (1%) وان كان اغلب من حققوها لم يحفلوا بالكتاب ولا صاحبه.
لا تنطبق عليك النكتة التي تقول "بدأت مشروعا من الصفر، وانا الان أرفل بالديون" وقد سبق لتشرشل ان قال "النكتة، شيء غاية في الجديّة"