في محاولته لدراسة أسباب النجاح، بحث الطبيب النفسي جورج بارنسلي بداية في أسباب نجاح لاعبي دوري الهوكي الكندي، وكان وقتها يبحث في المكان الخطأ أو يبحث عن أسباب لم يعترف بها الناجحون، أو لم ينتبهوا لها و لم يعرفوها حتى، وإن عرفوها لم يذكروها لأنها لا تخدم صورتهم ولا يملكونها كأسباب، ولم يتعبوا في تحصيلها، وعندما استعصى عليه بحثه، سألته زوجته، ألا ترى أنهم كلهم يشتركون في شيء واحد، وكانت صدمته إذ أشارت زوجته إلى أن أكثر من نصف اللاعبين المميزين في اللعبة، هم من مواليد الشهور الثلاثة الأولى من السنة، بينما ثلثهم الثاني من مواليد الشهور الثلاث الثانية، وعندما طور دراسته وجد أن ولادة اللاعب مبكرا بغض النظر عن الرياضة التي يمارسها، سواء كانت في الهوكي أو الرجبي أو كرة القدم، تعطيه فرصة أكبر بكثير للنمو والتمرن، والحصول على فرص أفضل وخبرة أكبر، ولو بفارق سنة، حتى أن بارنسلي بعد اكتشافه هذا صار يشاهد المباريات لا كما نشاهدها نحن، بل أن اللاعب مواليد شهر يناير مرر الكرة إلى لاعب مواليد شهر شباط الذي تجاوز اللاعب مواليد شهر حزيران بسهولة -بسبب فارق الحظ والميلاد- وسجل هدفا في الحارس مواليد الشهر الأخير من السنة.
هل يلعب تاريخ ميلادك دورا في نجاحك؟
يوم أو شهر أو سنة وصولك للدنيا يلعب دورا حاسما وليس بسيطا في المسار الذي تكون عليه حياتك، ولو توفرت لديك كل المهارات والأسباب والظروف، قد يكون توقيت ميلادك فارقا بدرجة أكبر بكثير من أي عامل آخر تتخيل أنه سر نجاح الكثيرين، قد تقرأ في كتاب أو تسمع في مقابلة كبار رجال الأعمال والشخصيات السياسية والمالية الناجحة بالعالم، تسرد لك كيف كانت تعمل على مدار الساعة واضعة نصب عينيها صفقة معينة أو استحواذا على شركة أو إنهاء لمشروع ما، مدركة أو غير مدركة لو أنها تأخرت عن ميلادها سنة، ما كانت لتقطف تلك الثمرة، التي حينها كانت لتسقط عن الشجرة وتذبل وتتعفن، قبل أن تصلها أنت أو غيرك، وكانت الأرض التي زرعت عليها جرفت وبيعت وبني فوقها بيت، أو برج، أو شركة، أو محل للخضار.
هذا بالتحديد ما وجده الكاتب الصحفي مالكولم غلادويل بعد أن درس الموضوع، في مجالات مختلفة، من الرياضة إلى التكنولوجيا والموسيقا، وقد رأى أن اثنين من أباطرة سيليكون فالي: بيل جيتس وستيف جوبس -بدون صدفة- يشتركان في سنة الميلاد، وهما من مواليد العام 1955، والذي وضعهما في العمر المناسب عند اختراع الكمبيوتر الشخصي بعدها بعشرين سنة، فلم يكونا أكبر بكثير ولا أصغر من أن يركبوا موجة هذا التطور، فبحسب الكاتب كانت ولادتهم قبل أو بعد ثلاث سنوات فقط لتحرمهما من الفرصة الموعودة، لأنهما كانا عندها طلاب مدرسة، إذا عاجلهم القدر، أو كانا ليكونا موظفين في أعمال مكتبية لو تأخر عنهما.
"أطول أشجار البلوط في الغابة هو الأطول ليس فقط لأنها نمت في قصة كفاح طويلة؛ إنها الأطول أيضًا لأنه لا توجد أشجار أخرى تحجب ضوء الشمس عنها، والتربة المحيطة بها كانت عميقة وغنية عندما زرعت، ولم تمضغها الأرانب عندما كانت شتلاً، ولم يقطعها أي حطاب قبل أن تنضج".
الفرص المتراكمة
هذا هو السر غير المكتوب، والذي نادرا ما ستقرؤه في سيرة، ولا ينتبه له معظم الباحثين في النجاح وأسراره أو حتى الناجحين أنفسهم، حتى بارنسلي نفسه، لم ينتبه، لولا تدخل زوجته التي نبهته لمسألة شهور الميلاد، والتي خرج منها بنظرية (الفرص المتراكمة)، إذ إن فرصة تفتح لك فرصة أخرى، ومنها لثالثة، فيما يصطلح عليه بالإنجليزية Accumulative Advantage كما نبه الطبيب والكاتب إلى أننا كمجتمعات دائما ما نخلط بين المهارة والنضوج Maturity Vs ability، وهو ما يحبط الطلبة والعاملين وكل فئة من الفئات الممكن تخيلها رغم أنها لو أخذت حقها في تعويض الوقت الذي فاتها، لجاوزت غيرها وأبدعت في مختلف المجالات.
وأنا، أخيرا أؤكد أنه ليس كل من يولد في الشهور الأولى من كل سنة ضامن لهذا التطور وتلك الفرص، لكنه أكثر حظا من غيره إذا توفرت له ولغيره ذات الشروط والأحكام، والظروف والبيئة، وكان له السبق في الولادة فقط، فلا يقعدن أحد عن السعي بمثل هذه الحجة، ولا يطمع أحد في الشهرة والمال بسبب تاريخ الوصول المسجل في شهادة الميلاد.