تضم كل ثورة عظيمة ثورات أصغر في ثناياها، ولا يمكن للأولى أنْ تتفجّر من دون تراكم الثانية على مرّ الزمن. وكانت مشاركة النساء في المجال الأدبي ثورة بحدّ ذاتها، حيث لم تكن استقلالية النساء الفكرية والإفصاح عن مكنوناتها وإبداعها أمراً مُرحّباً به، بل ولم يكن للمرأة بشكل أساسي دور اجتماعي غير دوري الزوجة والأم. وعلى الرغم من أهميتهما، إلا أنّهما كانا جوهري المرأة في الأطر التقليدية، ما ألغى كيانها المستقل، وضيّق على عطائه في مختلف المجالات، ومنها الأدبي.
ومن الجدير بالذكر أنّ الأسماء المستعارة أسماء وهمية يستخدمها الكُتّاب لإخفاء هويتهم، ذلك لعدة دوافع. وفي سياق الكاتبات النساء، كان استخدامهن لهذه الأسماء ثورة صغيرة أدت إلى تلك الكبرى. إذاً، ما هي دوافع استخدام الكاتبات الأسماء المستعارة؟ تابع القراءة لتعرف المزيد.
ج. ك. رولينج
إنْ لم تقرأ السلسلة الروائية "هاري بوتر"، فإنك شاهدت الأفلام على غالب الظن، وإنْ لم تشاهدها، ما من شك أنك على علم بالنجاح العالمي للكتب وإنتاجها السينمائي. لكن ما لا يعرفه الكثيرون هو أنّ مؤلفة هذه السلسلة لم تنشرها باسمها الحقيقي. لقد رفضت دور النشر كتاب "هاري بوتر" الأول اثنتي عشرة مرة، وقبلت نشره في النهاية دار "بلومسبري" الانجليزية (1).
واقترحت الدار على المؤلفة استخدام اسم مستعار لا يكشف عن جنسها، حيث يبتعد الصبيان عن قراءة الكتب المؤلفة من النساء، بينما أرادت الدار زيادة مبيعات الكتاب وجذب القراء الذكور. نتيجة لذلك، أخذت المؤلفة حرف الجيم من اسمها الأول "جوان" وحرف الكاف من اسم جدتها "كاثلين" وجمعتهما باسمها الأخير "رولينج"، وهكذا تم نشر كتب "هاري بوتر" باسم ج. ك. رولينج(1).
ويمتدّ ابتعاد الصبيان عن الأعمال النسائية إلى الشبان والرجال؛ فكما ورد في مقال من الجارديان(2)، فإنّ الأعمال النسائية الأكثر مبيعاً لعام 2021 حظيت بنسبة 19% من القراء الرجال فقط، بينما وصلت نسبتهم 55% للأعمال الرجالية الأكثر مبيعاً من ذات العام. إذاً، قد لا يجد الرجال قيمة مضافة لهم في أعمال النساء لأنثوية المواضيع التي تتناولها أو لكون الشخصية الرئيسة فتاة أو امرأة. أياً كان السبب، تحتاج الكاتبات إلى إقناع القراء الذكور بقيمة أعمالهن وباستحقاقها للقراءة. وهكذا، تلاعبت دار النشر في سيكولوجية القراء والانطباعات الجندرية عن طريق إخفاء جنس المؤلفة.
في نهاية الأمر، أصبحت سلسلة "هاري بوتر" من أشهر وأنجح السلاسل الروائية على الإطلاق، حيث ترجمت إلى معظم لغات العالم الحية(3)، ويتم تدريس الروايات باعتبارها جزءاً أساسياً من الأدب الانجليزي الحديث(4).
شارلوت برونتي
إنْ احتاجت ج. ك. رولينج بعض التخفي والتلاعب بالهوية الجندرية لضمان إصدار ناجح في عصرنا الحديث؛ إذ أصدر كتاب "هاري بوتر" الأول عام 1998(3)، فقد كان موقف الروائية البريطانية شارلوت برونتي أكثر حدّية وجدّية. لقد ولدت شارلوت في انجلترا عام 1816(5)، ونشرت روايتها الأشهر "جين آير" عام 1847 في لندن تحت الاسم المستعار "كورير بيل"(6)، ويعود السبب في ذلك لانعدام القبول الواسع للأفكار التي طرحتها شارلوت في الرواية. بعبارة أخرى، لو أنّ المؤلفة استخدمت اسمها الحقيقي لما نال طرحها الفكري من خلال القصة أي أهمية أو اهتمام من القراء أو النقاد، ولانشغل الجميع بنقاش أحقية المؤلفة من انعدامه بالنشر، وبطرح هكذا أفكار منافية للتقاليد على وجه الخصوص.
لقد ناقشت "جين آير" مواضيع ثورية، حيث طرحت أهمية التعليم في وقت لم يحصل عليه أبناء وبنات الطبقة الوسطى والعاملة، وحين لم تحظ فتيات الطبقة العليا بتعليم بعد سنّ العاشرة إذا لم يرغب الأهل في إكمال تعليمهن. ولقد طرحت الرواية التي انتشرت في العصر الفيكتوري مبدأ الاستقلالية المادية والفكرية للمرأة، بينما تميز هذا العصر بتبعية المرأة المادية للرجل، وانعدام استقلاليتها الفكرية، وتمحور دورها المجتمعي حول رعاية الأطفال والزوج. ومثال أخير على ما تناولته الرواية كان الكشف عن نفاق وفساد بعض رجال الدين في انجلترا، حيث لم يكونوا ذوي إيمان حقيقي. وقد كان المجتمع الفكتوري مجتمعاً بيوريتانياً – مسيحياً كثير التشدد، ما يعرّض حياة من يطرح بهكذا أفكار للخطر(6).
في نهاية المطاف، أصبحت "جين آير" إحدى كلاسيكيات الأدب الانجليزي التي تدرّس في المدارس والجامعات، وقد تم تحويلها إلى عدة أفلام، وتعد رواية أساسية في الأدب النسوي لما تشكله مواضيع الرواية من ثورة فكرية، وما يرمز له الاسم المستعار من ثورة أصغر حجماً، لكن لا تقل عن الأولى أهمية.
فدوى طوقان
لقد كبرت فدوى طوقان – الملقبة بشاعرة فلسطين – في بيت هيمن على سيطرته الرجل، ووصفت وضع المرأة فيه بكلماتها الشخصية على أنها "سجينة الجدران." لم تنل فدوى الحب والقبول من والديها منذ قبل ولادتها، حيث حاولت أمها إجهاضها جنيناً، ولم تتمكّن من تذكر يوم ميلادها، ولا يربطها به إلا وفاة ابن عم لها عندما كانت حاملاً في شهرها السابع. ربّت الخادمة فدوى في صغرها، ومنعتها والدتها عن اللعب بالدمى، وكان والدها يأمل أنْ تكون ذكراً، وبعدما خابت آماله كانت علاقتهما باردة خالية من المشاعر(7).
لم تتابع فدوى تعليمها، حيث أُجبرت على الإقامة في المنزل بعدما عبّر فتى لها عن إعجابه بها في عمر الثالثة عشر. حينها، قام شقيقها إبراهيم بتعليمها، وكما قالت كان لها الأب الضائع الذي ملأ الفراغ النفسي الذي عانت منه، حيث اهتم بها وعلّمها الشعر والعروض، وكان ذا أثر جوهري عليها. لقد نشرت فدوى قصائدها الأولى الغزلية في الصحف والمجلات العربية بالاسم المستعار "دنانير" حماية لنفسها من الفضيحة والعار داخل جدران البيت وخارجها (7).
ومع ذلك، لم يستمر استعمال الاسم المستعار طويلاً. بعد وفاة شقيقها إبراهيم طوقان عام 1941، طلب والدها منها كتابة الأشعار السياسية كبديل لأشعار إبراهيم، إلا أنها رفضت هذا الطلب. وبعد وفاة والدها وأحداث النكبة، بدأت بكتابة الأشعار الوطنية بتلقائية من دون أوامر خارجية. ليس هذا فحسب، بل نشرت فدوى ديوانها الشعري الأول باسمها الحقيقي عام 1955 بعد وفاة والدها، والذي كان بعنوان "وحدى مع الأيام"، والذي ضم أجمل قصائد الرثاء حول إبراهيم (7). إذاً، لم يكن الاسم المستعار إلا هرباً من العائلة وقيودها.
ليلى بعلبكي: ماذا لو؟
لم تحظَ الكاتبة اللبنانية ليلى بعلبكي بحظّ باسِم، حيث نشرت روايتها الأولى بعنوان "أنا أحيا" في عام 1985، وجذبت صدى إيجابياً لدى النقاد، إلا أنّ مجموعتها القصصية المنتشرة عام 1964 بعنوان "سفينة حنان إلى القمر" أدت إلى محاكمة ليلى بتهمة "الإساءة للخلق العام" لما تعرضت له المجموعة القصصية من موضوعات محرمة في المجتمع العربي آنذاك، وما زالت. بعد المحاكمة ومهاجمة الكاتبة من قبل الكتاب والصحفيين، وعقب اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975، غادرت الكاتبة لبنان إلى انجلترا، وتركت الكتابة الأدبية متجهة للصحافة(8).
وفي الختام، لنا أنْ نتساءل: هل كانت ليلى بعلبكي ستترك الكتابة الأدبية لو أنها اسخدمت اسماً مستعاراً؟ ما الذي كان لها أنْ تقدمه للساحة الأدبية لو أنها ضمنت أمانها وسرية هويتها؟
المراجع:
1. موقع ج. ك. رولينج الرسمي، تم الاسترجاع من هنا.
2. م. أ. سيغارت، "لماذا يقرأ قلة من الرجال أعمال النساء؟"، موقع الجارديان، تم الاسترجاع من هنا.
3. ويكيبيديا باللغة العربية، "هاري بوتر"، تم الاسترجاع من هنا.
4. ويكيبيديا باللغة الانجليزية، "هاري بوتر"، تم الاسترجاع من هنا.
5. "من هي شارلوت برونتي"، موقع أراجيك، تم الاسترجاع من هنا.
6. "تحليل جين آير شارلوت برونتي"، تم الاسترجاع من هنا.
7. "فدوى طوقان.. أمّ الشعر الفلسطيني"، موقع الجزيرة، تم الاسترجاع من هنا.
8. صقر أبو فخر، "أومضت ثم انطفأت.. ليلى بعلبكي وحطام الأحلام الزاهية"، موقع الضفة الثالثة، تم الاسترجاع من هنا.