أجد العلاقة بين القرّاء وكتب التنمية البشرية علاقة حب وكراهية؛ إذ إنهم يتوجهون إليها بهدف تنمية أنفسهم، ويستفيدون منها أدوات تطوير الذات، إلا أنّ الكثير منها يبقى مجرد معلومات لا تُطبّق على الواقع، هذا عدا عن المعلومات التي تُطوى في النسيان. وهكذا، يقع القارئ في وهم أنه أصبح شخصاً أفضل في مجال ما بمجرد قراءته لكتاب متعلق به. وقد لا يلاحظ القارئ هذه الدوامة إلا بعد وقت طويل من استهلاك هذا النوع من الكتب. ومن جهة أخرى، يتجه القراء إلى الروايات والأعمال الأدبية من أجل الترفيه من دون الالتفات إلى الفائدة التي تقدمها لهم.
ويقول المؤلف الإيرلندي "أوسكار وايلد" في بداية روايته "صورة دوريان غراي" إنّ الفن غير مفيد. وبما أنّ الأعمال الأدبية فن لغوي، هل تصح مقولة "وايلد"؟ هل هي غير ذي جدوى؟ أم أنها أساس للتنمية البشرية، نتغافل عنه على الدوام؟
فوائد الأدب وأهميته
زيادة الوعي حول النفس البشرية
تخوض رواية "الجريمة والعقاب" للمؤلف الروسي فلاديمير دوستويفسكي في أعماق النفس البشرية، وتتناول صراعاتها وتناقضاتها، وتتميز بابتعادها عن مفهوم الشخصية الخيالية المتماسكة و "المثالية" التي لا تعكس طبيعة البشر. تدور أحداث الرواية المكونة من جزأين حول شخصية "راسكولينكوف" الشاب الرافض للظلم والقهر، والذي يقوم بالرغم من ذلك بالتخطيط لقتل وسرقة المرابية العجوز "إيلينا إيفانوفنا" لإعالة نفسه وأسرته، متجاهلاً ما بداخله من وازع إنساني يمنعه عن جريمة كهذه. وتباعاً لتنفيذه إياها، يقع "راسكولينكوف" في دوامة من الأفكار الفلسفية وتأنيب الضمير لما فعله، فيتلقى العقاب على جريمته.
يكون عقاب "راسكولينكوف" عقاباً نابعاً من نفسه، وهو أشد من العقاب الدنيوي القانوني، لأنه نابع من الضمير، حيث يقول دوستويفسكي على لسان الشخصية الرئيسية: "محاكمة النفس أصعب وأبغض من المحاكمة الأرضية باسم القانون، فالقانون هنا ينطلق من الضمير." إذاً، يدفعنا المؤلف من خلال رحلة الجريمة، بما شملته من مونولوجات فلسفية وشاعرية، ورحلة العقاب إلى مواجهة النفس البشرية، والتوقف عن الهرب منها، واستكشاف طبيعتها في ظروف سوداوية.
وهنا تبرز فرصة التعرّف على "الظل" الخاص بنا. لقد كشف عالم النفس "كارل يونغ" عن مفهوم الظل للمجتمع المعاصر على الرغم من أصوله الأكثر قدماً. ويشمل الظل خصالنا السيئة، واللاأخلاقية، والتدميرية، والتي نعمل جاهدين على إخفائها عمن حولنا وعن أنفسنا. ويقول "يونغ" أنه كلما تواجد الظل في الخفاء ازداد سواداً وكثافة، مما يمنحه قوة أكبر على جانبنا الواعي وتصرفاتنا. وهنا، نعود إلى قصة "الجريمة والعقاب"، حيث تحفز القارئ على سؤال نفسه ذات الأسئلة التي عانى "راسكولينكوف" منها نتيجة سيطرة ظله عليه. وهكذا، نأخذ خطوة تجاه التعرف على ظلنا.
زيادة المخزون اللغوي والتعبير عن النفس
تغذي الأعمال الأدبية مخزوننا اللغوي بكلمات وتعابير جديدة عند قراءتها. ليس هذا فحسب، بل إنّ الروايات محكمة الكتابة – تماماً كما القصائد – تعبر عن دواخلنا من مشاعر، وأفكار، وتساؤلات، ومخاوف، وغيرها. إذاً، فإنها تعبر عما نعرفه ونشعر به ولا نتمكّن من التعبير عنه لقصور مخزوننا اللغوي ووعينا. وعليه، يمكن القول إنّ الأدب يضع النقاط على حروفنا، ويبدّد الضباب عن أنفسنا، فنفهمها ونتمكن من التعبير عنها.
الكلمات أداة البشر في التفاهم والتواصل فيما بينهم، كما أنها أداة فهم النفس والتصالح معها ومع ظلها. بعبارة أخرى، زيادة المخزون اللغوي عبر قراءة قصص الشخصيات الخيالية يزيدنا وعياً وقدرة على التعبير، مما يمكّننا من بناء علاقة قائمة على التصالح، والتقبل، والتعاطف، مع أنفسنا والآخرين, مما يوجد التناغم والانسجام في حياتنا الشخصية.
باب لمختلف العلوم الإنسانية
إنّ رواية "صورة دوريان غراي" للمؤلف الإيرلندي "أوسكار وايلد" ذات أهمية بالغة لما تضمه من أفكار فلسفية؛ إذ تختبر الرواية من خلال حواراتها مفاهيم اجتماعية عديدة، ومنها الزواج، والصداقة، والعداء، والأخلاق، ولعل أهمها كان مفهوم الجمال. أحداث الرواية مبنية على مفهوم شاع في عصر النهضة، القائل إنّ الإنسان جميل القالب جميل القلب. وعليه، يقوم "أوسكار وايلد" بفتح أبواب الفلسفة على القارئ.
بعيداً عن الفلسفة، تخوض رواية "دعاء الكروان" للمؤلف المصري طه حسين في قضية اجتماعية شائعة في المجتمعات العربية، ألا وهي جرائم "الشرف". وعليه، فإنه يقدم في القصة بُعداً اجتماعياً ونفسياً لضحايا هذه الجرائم، ومرتكبيها، والمقربين من الضحية الذين يسعون للانتقام. ورغم انتشار "دعاء الكروان" في عام 1934، إلا أنها ما تزال تشكل مدخلاً لهذه القضية التي تهم المجتمعات والمرأة، وما تزال واقعاً أليماً للكثيرين.
من الفلسفة إلى القضايا الاجتماعية، ومنها نحطّ على الحضور القوي لعلم النفس في الأعمال الأدبية بطبيعتها، حيث أنها تكشف عن دواخل النفس وجوانبها المستنيرة والمظلمة، ونجد لتجسيد الجوانب المظلمة غير المألوفة مثالاً في رواية "لوليتا" للمؤلف الروسي-الأميركي "فلاديمير نابوكوف". يقوم بطل الرواية "همبرت همبرت"، وهو أستاذ في منتصف العمر، بالارتباط بعلاقة مع "دولوريس هيز" ذات الاثني عشر عاماً، ذلك بعد أنْ أصبح زوجاً لأمها. يعتمد أسلوب المؤلف في هذه الرواية على السرد الذاتي، حيث يقوم "همبرت" بسرد قصته مع "دولوريس" من جانب واحد، يكشف فيه انتقائياً عن مشاعره، مُحاولاً كسب تعاطف القارئ. وهكذا، يكتشف القراء من خلال سرده فكر ونفسية هذا الفرد البيدوفيلي المهووس بالفتيات الصغيرات.
إذاً، هل توافق كلام "أوسكار وايلد"؟ هل الأدب، باعتباره فناً، غير ذي فائدة؟
المراجع:
1. أوسكار وايلد، "صورة دوريان غراي"، دار نشر "كولينز"، 2010.
2. "«الجريمة والعقاب» ملحمة دوستويفسكي الخالدة"، موقع البيان، تم الاسترجاع من هنا.
3. "الجريمة والعقاب"، ويكيبيديا العربية، تم الاسترجاع من هنا.
4. "دعاء الكروان (رواية)"، ويكيبيديا العربية، تم الاسترجاع من هنا.
5. "كارل يونغ و الظل : القوّة الخفيّة لجانبنا المظلم"، موقع عزيمة، تم الاسترجاع من هنا.
6. "لوليتا"، ويكيبيديا العربية، تم الاسترجاع من هنا.