أكثر ما يثير انتباهي في الآونة الأخيرة هو ردة فعلنا نحن البشر في تحويل كلٍّ من الشخصيات والوقائع والأحداث المستقبلية المتوقعة إلى نسخة محسنة آلاف المرات مما هي عليه، فتجد واقعًا يمرُّ بنا وواقع نمرُّ عليه وواقع يمرُّ فينا ووهم في المخيلة يؤثر في كل ما سبق.
نظرية تحويل الواقع إلى جنة، ولكن حقيقة الجنة جحيم، وبناءً على تلك النظرية، يمكننا تحويل المرآة المهشمة لأسطورة تاريخية وفن أصيل؛ وربما نقدس تلك المرآة، على كونها قطعة أثرية تحملت ضريبة الجمال في التهشم. وقياسًا على تلك النظرية نستطيع أيضًا رسم شخصية من نحب بالصفات التي تعجبنا، لا يهم إن لم تكن تعبر عنه، الأهم هو أن يتوافق كل ما نفكر فيه مع تلك الشخصية التي نحبُّها كما نحب لا كما هي. وعلى ذلك؛ تفشل الكثير من العلاقات والجملة الأخيرة في كلِّ علاقة "لم أتوقع أنه هكذا"، "لم أتصوَّر أنها من تلك الفئة".
وفي هذه الجزئية تحديدًا شرح مطوَّل قد نرفقه بمقال آخر تحت عنوان شخصية لك وشخصية مفروضة عليك! أما في هذا المقال سنوضح الإشكالية التي يتعرض لها الأفراد مع الجمادات والمحسوسات وأحلام الصبا، وكيف تتحول الوقائع المُرَّة إلى وهم في الخيال يعجبنا شكلها؟
طبيعة الإنسان الحيَّة تميل لتجميل كل ما لا يراه مناسبًا وفق قاموس الجمال في عقله، قد يرى الشباك العاديَّ بوابة تطل على الجنة، والحقيقة ليست كذلك!
وهنا لا نقول أنَّ التصرف خطأ بالكامل إن كان يرمي لقناعة حقيقة وإدراك منطقي، فيقول: هذا الشباك مهترئ يطلُّ على بنايات ومصانع وتستطيع الزمامير اختراقه لكنه بالنسبة لي يُشير إلى كذا وكذا.
أمَّا عن صديقنا الذي نختلف معه وهو أساس قضيتنا المعاصرة، إنه لا يقتنع بأنَّ هذا الشباك يحمل ما يحمل من الصفات التي لا يختلف عليها اثنان، بل قناعته الوحيدة هي خيال حي يحوِّل كل ما يريد للصورة المرسومة في مخيلته.
لا أعتقد أنَّ السبب الذي يدفع تلك الفئة لقناعة التجميل هو العمى، بل على العكس العمى ينير بصيرة المرء النقية، السبب هو المدخلات الشاسعة التي مكَّنت كل فرد من بناء عالم خاص ليعيش فيه.
فتجد أنَّ المرء يميل لرسم وهم في مخيلته على أن يبدأ في تغيير واقعه لما يريد، فالركون إلى الراحة شكَّل لدى الفرد اضطرابًا فيما يجب وما هو حاضرٌ فعليًّا.
ببساطة لو أنه عالج اهتراء الشباك ووضع مادة لعزل الصوت وزرع الزهور في قوارير صغيرة، ربما.. ربما اقترب للشكل الذي في خياله، لكنه آثر على ذلك استخدام الخيال.
هل يمكن أن يصبح الخيال معطوبًا؟
إجابة هذا السؤال من الصعب أن يُجيبها المتقدمون في العمر، من تجاوزوا الستين والسبعين، ببساطة لأنهم لم يشغلو العقل بما لا ينفعه، بل كان الخيال يرشدهم ويهديهم نحو ما يتمتعون به اليوم من نعيم.
هذا السؤال لجيل اليوم عقب عقدين أو ثلاثة، مع تغير شكل الحياة ونمطها إلا أنَّ النفس واحدة، لها رغبات مشتركة، ومآلات متنوعة.
إلى ماذا يسعى الإنسان من الصورة المجمَّلة؟
إلى نفسه. في داخل كلٍّ منَّا شيء مجهول، سمِّه وهمًا سمه ذاتًا مبهمة؛ هذا الشيء الغامض لا اسم له، إلا أنه الشيء الذي نسعى أن نكون عليه.
في رواية الساعة الخامسة والعشرون لقسطنطين جورجيو وصف لأمريكا على لسان القس، عاش عمره يتصور أمريكا عالمًا عظيمًا حلمًا يعيش من أجله، في نهاية عمره لم يرغب في زيارتها خوفًا من ضياع السبب الذي كان يحيا لأجله، متيقنًا أنَّ أمريكا كانت وهمًا يعجبه أن يسعى إليه ويخشى أن يتبخر عندما يتحقق؛ وهنا لا نستطيع أن نصفه بالرغبة سريعة الزوال. فنقول إن تصرفه «ليس الأسف للبقاء، بل إنه الحنين إلى شيء نعتقد في صحته في خيالنا، شيء لن نمتلكه أبدًا وإذا بلغناه فإننا سرعان ما نجد أنه لم يكن هو موضوع أحلامنا».
هل جربت أن تسأل الأعمى منذ ولادته، ماذا يرى؟
سيلقي على مسامعك أمورًا قد لا تفهمها، لن تتصور كيف يعيش إنسان في القرن الواحد والعشرين على تلك التهيؤات، والحقيقة أن كلًّا منا بالنسبة للآخر هو أعمى. كلٌّ منَّا يحيا على مفردات مختلفة، كلٌّ منا في ظلام وفي وسط هذا الظلام نضيء بالطريقة التي نراها مناسبة.
ما علاقة هذا بنظرية الجحيم المعسول؟
نحن كبشر غير قادرين على العيش في حياةٍ واحدةٍ ضمن إطارٍ معينٍ وخيارٍ محددٍ. فكلُّ طريق نخطوه، يبقى شيء ما بداخلنا يصرخ، ماذا لو سلكت الطريق الآخر، وها كلٌ منا يصرخ بنبرة مختلفة بموجة متفاوتة، كلٌّ حسب تأثير تلك النظرية على عقله.
هل بوسعنا التوقف عن تجميل الأمور مما تكون عليه؟
قد يختلف البعض هنا، فيقول: هنيئًا لمن يستطيع أن يسلي نفسه بأطياف وهم للتخلص من قسوة الحياة ومواقفه.
فأقول هنا: هل من الصواب الغناء للمصاب أم المباشرة في علاج جرحه؟ هل الصواب أن نثنيه عن البحث؟ عن الحل البشري الذي يملكه عقله؟ العقل المشغول في التجميل لا في العلاج.
يقول العزيز جوزيه ساراماجو في روايته "العمى": شكرًا لتجربة الحياة القاسية، المعلِّم الأساسي لكل الانضباطات.
في الحقيقة ما دفعني لكتابة هذا هو مشهد لمسلسل الفصول الأربعة من إخراج الحكيم حاتم علي، يصف فيه شخصية مايا الابنة الأرستقراطية التي انهارت أحلامها عندما انهارت الشخصية المرسومة في خيالها لممثل على الشاشة، يؤدي دور الفقراء بمهنية ومصداقية عالية، وهذه الشخصية التي كانت تدفع مايا لأن تؤثر في المجتمع من خلال تأثرها بهذا الممثل.
ليتضح لها عند مقابلته، أنه شخصية كاذبة، يقلل من قيمة الفقراء ولا يحترم مواعيده ولا يقدر طاقم العمل، أو بشكلٍ أدق ليس من حقنا أن نقول عنه كاذبًا، لأن الشخصية الحقيقة التي ظهر فيها، شخصيته خلف الشاشة، وهي التي لم تكن بطلة المسلسل تظن أنها تعود إليه.
وهذه الشخصية لا تعيبه وليس له علاقة بها، هو في النهاية ممثل وهي من رسمت له بعدًا أخلاقيًّا لا يجاريه أحد فيه، القمر عبارة عن صخور وتراب وهو القمر، أحيانًا التعمق في الشيء يفسده في المخيلة، ليس العيب في الشيء؛ بل العيب المطلق في المخيلة التي تصوِّر الشيء بشيء لا علاقة له فيه..
فلنجعل زهرة اللوتس زهرة لوتس والبصل بصلًا والشباك شباكًا؛ كلٌ يؤدي وظيفته، ولنسمح للعقل بعد الآن أن يؤدي وظيفته الحقيقية.