ما سرّ تساؤل الإنسان والعالم!
أخوض منذ عدة أعوام، رحلة التساؤل، عن كلّ الأشياء والأفكار والأوهام، عن الفكرة المجردة، والتغيّر المتسارع في الأحداث دون نبوءة تشير إلى متى سينتهي العالم عن التحوّل. بعض التساؤلات باتت فارغة في أدب العصر الحاليّ، وبتُّ أسأل ما الذي يميّز الأدب الحقيقي عن الأدب "المستعار" وكيف يمكن للكاتب أن يُدهش قارئ حقبته وما بعد تلك الحقبة وللأبد! وهل مهمة الكاتب أن ينسج أدب "مدهش" وأبديّ! وصحيح، هل للدهشة مقياس؟ هل القصة أمكنة وأزمنة وشخوص تستحق أن تُروى، وجوهر الرواية أخيلة وأحداث وتسابق زمنيّ من الضروريّ نشره، وهل يمكن اعتبار الأدب أداة لتغيّر الواقع، -كونه يحمل قيمة سامية باعتباره مؤشر يرصد حقبة من التاريخ-.
الأدب هو سيرة الإنسان، أُسلوب يتفرد فيه لجعل المكان مكانًا والزمان زمانًا بغير المكان وغير الزمان، عالم يحتضن عالمًا أصغر منه، كدمية الماتريوشكا الروسية، شاهد حقيقي على قوة حضور الأشياء، وتبدد الأوهام فيما بعد. حالة ذهنية من وصف الحوار الذي يجري بين الحركات الكونية، وقدرته على نقد الواقع، والإيمان المطلق بالتجارب الماضية والإخفاقات الراهنة.
والأدب قادرٌ على قيادة الواقع وتوجيهه، وجعله مرشدًا أكثر منه انعكاسًا، ويبدو لنا أن الأدب ساعة الزمن ودمج الحيوات، لا بالتزامن إنًما بتوازٍ لا تطابق فيه، يثير الدهشة والرغبة في قراءة المستقبل فيما بعد.
إذن؛ أليس الأدب المتنبئ بالمستقبل داعيٌّ للدهشة؟
إنّ الدهشة فيما هو لحظيّ تختلف عن الدهشة الباقية والممتدة، فالتراكيب المعقدة والانسياب اللغويّ، والتمسك بالفكرة، أمر يثير الإعجاب بالنص، وقد تختفي لذّة النص ودهشته مع تزاحم الكتب الأخرى، ودخول أساليب جديدة في الأدب، وينسى. أمّا الأدب الذي يجرّد الواقع من سوداويته ويسرد لنا ما تحت المنطوق ويحلل الوقائع، ويقدّم تبريرًا لما هو وحشيّ في طبع الإنسان، لهو أدبٌ مدهش مدهش!
ثمّة أشياء لا تعد ولا تحصى في الأدب، كونه شاهد وراصد لاستنساخ المشاعر والوقائع التاريخية، يتحدث جوزيه ساراماغو عن ذلك في رواية العمى، عن حقيقة أن يجعل الوباء من البشر عميانًا عن كلّ القيّم الإنسانية، وما قدمه جورج أورويل في "1984" الرواية التي كتبها في عام 1948، وما زالت حاضرة حتى الآن، عن طريق رصد التلاعب المستمر بالجماهير والقيّم الأخلاقية، في عالم لا يخلو من حرب وصراع ونزاعات حكومية وتفريق عنصريّ. الأمر ذاته نجده في ديستوبيا مزرعة الحيوان، التي تعد شاهدًا على قوة الثورة في تغير نظام الحكم، وأحيانًا تغيّره لما هو أسوأ، وهنا نجد أنّ اللبنة الأساسية في الأدب محاولة علاج الإنسان، للدهشة الأبدية لا اللحظيّة.
لا يمكن للإنسان أن يؤكد سلطته على شيء في الوجود، إلّا إن استطاع أن يجعله يقاسي الألم، فالانصياع لإرادة الحياة ما هو إلّا تجسيد للانصياع وراء الألم الذي تزرعه فينا، والخوف الذي وصل ذروته وتكرّس بحقيقة الإنسان، لا يمكن تبديده إلّا من خلال الأدب، فالشخصيات الروائية وسيلة لعلاج الإنسان.
وهنا بدا أنّ لا مجال للشكّ بعد ذلك في العالم الذي يصوّره الأدب، وما يمكن أن ينتجه عند اتخاذ الإنسان فكرة لا تختفي مع دخول الأشياء في عالم شاسع أغرته المادة، فالكاتب الذي يدرك اللحظة التي يجب أن يقول فيها شيئًا للعالم، يبدأ بالكتابة عن نفسه وما هو عليه من تجسيد للنزعة الوطنية ومعيار الإنسانية والظروف المحيطة والصعوبات، التي تتفاوت من حقبة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر وكذلك من أدب إلى أدب آخر؛ ولهذا كان الشعور ثقيلًا في أدب وخفيف في أدب.
وأخيرًا لقد تشكّل السر واكتمل السيناريو، العالم الماديّ الأكبر بكلّ اختلافه، تجسيدٌ موّحد لما هو في داخل الإنسان. والطريق القصير بين البداية والنهاية، دلالة على أنّ العالم على وشك الانتهاء، والريبة تدفع الإنسان للفكرة، والأدب ينتج من هذه الفكرة.