يتفق الكُتّاب، وغيرهم من البشر، بحلم اللامتوقع؛ انتظار اللامتوقع، صُنع اللامتوقع، الوقوع في حُبّ اللامتوقع. سماع حكاية وسرد رواية والغوص في قصة من غير المتوقع أن يكون جزءاً منها، وعليه فإن مهمة تشكيل اللامتوقع تتطلب الكثير من الجهد والذكاء وممارسة العاديّ طويلًا إلى أن تنتهي مرحلته من قاع المرء؛ فيقفز بعد ذلك للامتوقع.
في الحديث عن الكتابة، هُناك عدة أشكال يظهر بها النص أو المقال أو الرواية، وأجد أن الكاتبة بثينة العيسى أجادت هذا التصنيف إلى "العادي أو الاستثنائي أو الاستثنائي في العادي".
وهنا يحدد كُلّ كاتب شكل النص الذي يريده، ونوعية الفكرة التي يرغب بإيصالها، الجمهور الذي سيقرأ ما كُتب، وهل نصه مُتاح لكلّ البشر، حتى بعد ترجمته، وهل سيخلق النص له بشرًا من بيئة غير التي خرج منها الكاتب!
الكاتب المرن هو الذي يخلق قارئًا له، يبني معه نقطة تلاقي مشتركة، يتحدث وإياه عن العاديّ من الأمور ويصعد معه سلم الاستثنائي درجة بعد أخرى، وخيالًا خيالا، وهكذا يمهد له الوصول للفكرة العظيمة، وطرح النظريات الفلسفية بما يتناسب مع واقع القارئ.
الكتابة، منذ قديم الأزمان، تتجه إلى الاستثنائي؛ خرق القواعد البشرية في الواقع، استخدام اللغة الصعبة، ألفاظ أكثر من مقطع، وندرج هُنا ملحمة جلجامش وطريقة عرضها بأكثر من صياغة لإيصال فكرة جوهرية، وفيها أن الحُبّ قد يحوّل كُلّ شيء إلى إنسان ذي قلب، وقد يكون للأمد معنى آخر غير الذي ورثناه. والاستثنائي لا يعني أيضًا بناء جسر من الأوهام، فما أن ينتهي القارئ حتى يسقط في وحل واقع استطاع الكاتب بكلمات معسولة أن يُغرقه فيه.
اللغة لا تتحد لتخرج أفضل ما فيها بحجة الاستثنائي، فالقواميس والمعاجم على رفوف المكتبات، ولا تستهوي كُلّ القراء، بل اجعل اللغة مطاطية كالروح، تتناغم مع الفكرة، تُدهش القارئ، تُطمئنه، ترسل له عناقا حنونا. هذا هو معيار قياس الاستثنائي.
على الكاتب أن يضع نصب عينيه غايته من الكتابة، لا غاية تسمى "لا غاية لي"، فمن لا غاية له لا يدع الآخرين يقرأون أفكاره. ومن هنا على الكاتب استخدام إيقاع لإدراك العالم، أن يتصف بالشجاعة التي تمكنه من ملاحظة كُلّ شيء وسرده بطريقة متناغمة، أن يطعَّم النص بالرائحة القوية التي تدفع القارئ للاسترخاء مثلًا، أن يُسمعه صوت الموسيقا واللحن وما تتركه من شعور بدون أن يسمعها، أن يتذوق معه جميع الأشياء، وأن يحمله معه إلى الفضاء، فلا يُعيده مُحملًا بعبارات تأمليّة تفقد أثرها بغلق دفتيّ الكتاب، بل تبقى لتشكل له وعيًا وتبني له منهجًا وتزرع له مبدأ، وتكشف له ما خفيّ فيه!
مهمة الكاتب أن يُعرّف القارئ على نفسه، أن يشعره باللذة، بالحلم، بالألم، أن يصف له الجمال، ولا يهم كيف يكون شكل الجمال، هل هو قُبح وفي ثناياه، أم دهشة الألم وصرخة الحقيقة!
كُلّ شيء مادة مناسبة للكتابة، طالما لم يتجاوز الكاتب القواعد. ستقول كيف نُسميه كاتبا إن التزم بالقواعد، أقول: القواعد أُسس البناء وإطار النص، والقواعد في النص كمكابح المركبة تُمكن السائق من تفادي الخطر وتُمكن الكاتب من التحكم في النص، فيتقنه ويجعله مريحًا وسلسًا في التدرج للوصول إلى الحقيقة. نعم الحقيقة، كُلّ شيء مباح في الكتابة إلا الكذب، إلا أن تدفع القارئ النائم إلى الهاوية.
مهمة الكاتب، إذن، أن يخلق روحًا وليس رصّ كلمات بجانب بعضها بعضًا، فيجعل من الكلمات شخصًا له قدمان بعد أن يبث فيه الروح، يجعله من رائحة وصوت وشعور وإحساس، وفكرة صارخة تميّزه عن غيره من الوجوه، والاستشهاد بالطبيعة بكلّ ما فيها، برصف نُدرة الغرابة، وطائر النورس المحلق، وعذوبة البحر وأُعجوبة القصيدة، تصنع للنص كيانًا له حضور مهما مرّ عليه الزمن وتعددت الأفكار، واختلفت أذواق البشر. كيان النص الحقيقي لا يستطيع الزمن ممارسة الفناء عليه.
الكتابة فن، والفن لا يؤتى لكل العالمين، لربما هكذا نجعل له قيمة ويكون استثنائيًا، وليس قيمته بالعاديّ، ولا أقصد إهانة العادي هُنا بجعله مهترئا ولا يصلح للكتابة عنه، بل أن نخلق من الممكن غير الممكن، ومن السؤال الإجابة، فلا نستطيع خلق الاستثنائي إلا إذا استهلكنا العادي، فلا يبالغ الكاتب في الأوهام فمهمة الكاتب صناعة قارئ حكيم، فلا يكون الكاتب كاتبًا بلا أخطاء وتجارب ولا يكون القارئ إنسانًا بلا تمحيص وتقليب للحقائق؛ دفعها وقبولها بما يتناسب مع الحقيقة التي تتفق مع ذات المرء، وحقيقة الإنسان فطرته لا ما وجد عليه الأولين.