مفهوم وجذر الثقافة واستعمالاتها المتداولة
يتشعب مصطلح الثقافة في المعنى إلى دوال عديدة، فدال الثقافة في أصله الاشتقاقي "ثقف" يشير إلى دوال الحذق والفطنة والتعلم، ويُطلق مثقف على المُلِم بمجالات متنوعة، ويتم استعمالها ايضاً للإشارة إلى معرفة واهتمامات مشتركة بين مجموعة من الأفراد، ما يضفي عليها طابع الجماعة المؤدلجة، فمصطلح Popular culture مثلاً يشير إلى الاشخاص الذين يدورون في فلك الاهتمامات التي تسببها العولمة وذوبان الثقافات. يمكن التفكير بكتب هاري بوتر أو الاهتمام بفرقة الكي بوب الكورية BTS، ومعرفة لوحة الموناليزا، فتُعتبر هذه الاهتمامات بمثابة منتجات ثقافية يتم انتاجها واستهلاكها. وتدل ايضاً على انماط سلوكية وأخلاقية جمعية، فمصطلح Culture of Honor يُطلق على سكان الولايات الجنوبية للولايات المتحدة للإشارة الى تحفظات اخلاقية مثل عدم الاساءة للآخر، او الحساسية المفرطة تجاه الاساءات الشخصية بشكل يجعلهم يميلون إلى العنف بخلاف سكان الولايات الشمالية.
في الرجوع إلى الجذر اللاتيني لكلمة الثقافة Colere، فإن مدلول استعمالها الأولي كما يذكر رايموند وليامز في كتابه "كلمات أساسية"، كان يشير استخدامه المبكر إلى اسم لعملية: "أي رعاية شيء معين، بطريقة أساسية رعاية المحاصيل والحيوانات"، ثم انسحب استخدام دال الثقافة إلى عمليات الرعاية والإنماء والتدريب الإنساني، أي عمليات تنمية وتهذيب وتخصيب العقول.
وفي كتاب رايموند وليامز "الثقافة والمجتمع" فقد حدد أربع معانٍ للثقافة، أولها حالة فردية مرتبطة بالعقل والكمال الإنساني، ثانيهما حالة عامة مرتبطة بالتطور الفكري للمجتمع، ثالثهما بالفنون، ورابعها طريقة كلية أو شاملة للحياة مادية وفكرية وروحية، وهو ما يرتبط مع مدلول الثقافة طبقاً كما طرحه "ليتش" Leitch في مجال متسع من العلاقات، فالمدلول "يحدد ويسمي الممارسات الفكرية والفنية، بنوع خاص الأدب والموسيقا والرسم، والنحت، والمسرح، والفلسفة، والنقد، ويصف عمليات التطور الفكري، والروحي، والجمالي، والأخلاقي، ويبين طريقة الحياة المختلفة لشعب ما، او حقبة تاريخية معينة، أو للإنسانية على وجه العموم، ويشير الى تهذيب الذوق، والحكم والعقل، ويشتمل على السلوك، والتقاليد، والعادات، والأساطير، والمؤسسات، وأنماط التفكير"
الثقافة وارتباطها بالإمبريالية
عني الفكر الجمعي الغربي بوجود فروقات انطولوجية بين حضاراتهم والحضارات الاخرى، و"الاخرى" هي تجريدهم من العمليات الفكرية ورؤيتهم كصنف ثان من البشر يحتاج الى التثقيف. وقد درس ادوارد سعيد في كتابه "الثقافة والامبريالية" اعمالا مختارة مثل "قلب الظلام" لجوزيف كونراد، "مانسفيلد بارك" لجين اوستن، مجادلاً ان البلاد المستعمرة تم مناقشتها ليس بأماكن لها حيز تاريخي وشعبي في الوجود، وإنما كواجهة أعمال للشاب الاوروبي الطموح.
وعلى الرغم من اختفاء الاستعمار الامبريالي كوجود ملموس، فإننا نجد اليوم بروز إمبريالية أخرى، تستعمل الخطابة والسياسة العالمية كأدوات لها، فنجد سلوكيات معينة توصف بالحضارية، وسلوكيات مقابلة لها توصف بالهمجية. فأصبح الصراع صراعاً ايديولوجياً بالدرجة الاولى يتخفى تحت الشعارات التي تنادي بالليبرالية والتحضر. وفي المثال التالي قصيدة للكاتب الانجليزي روديارد كيبلنغ بعنوان عبء الرجل الابيض ( The White burden )
Take up the White Man’s burden—
Send forth the best ye breed—
Go send your sons to exile
To serve your captives' need
To wait in heavy harness
On fluttered folk and wild—
Your new-caught، sullen peoples،
Half devil and half child
في قصيدة "عبء الرجل الأبيض" يتغنى كيبلنغ بالاستعمار الاميركي للجزر الفلبينية، ويدعو الرجل الأوروبي إلى أخذ هذا العبء النبيل الذي سيحمل في طياته حمل شعلة التنوير والتثقيف إلى من دعاهم في قصيدته نصف أطفال، ونصف شياطين. فلقد حملت القصيدة الوعي الشعبي في أواخر القرن العشرين الذي كان طاغياً في اوروبا. ولقد رأى ادوارد سعيد أن مفتاح فهم الثقافة، يكمن في تحليل وفك شيفرة خطابات الادب التي كتبت خلال حقبة الاستعمار وفهم مضامينها الثقافية.
الثقافة الشعبية حسب مدرسة فرانكفورت
لقد اعتمد منظرو مدرسة فرانكفورت على التحليلات الماركسية لتفسير مشكلات الحداثة التي احدثها النظام الرأسمالي العالمي. من هؤلاء المنظرين هربرت ماركوزه و ثيودور ادورنو وهابرماس. ولقد قاموا بتقسيم المجتمع الى فئتين: ثقافة عليا ارستوقراطية لها قيمها التي تتبعها وتحافظ عليها، يمكن التفكير بطبقة النبلاء في اوروبا كمثال عليها. وثقافة دنيا وهي مرتبطة بالطبقة العاملة التي لها طابع وموروث فولكلوري يعطيها صفة التفرد. ولكن ما أصبحنا نشهده هو تنامي ثقافة تسمى "الثقافة الشعبية" تكتسح جميع معايير التفرد عن طريق إنشاء سلوكيات مبنية على الاستهلاك، وبالتالي اصبح يسهل ايضا أدلجة فكرها بناء على الشركات الرأسمالية الكبرى ومنتجاتها، وبهذا تضمحل الطبقة العليا والدنيا لتحل مكانها الثقافة الشعبية، ويتم إنشاء ثقافة للناس بدلا من ان يتم انشاؤها من قبل الناس أنفسهم. يمكن التفكير بالإعلام والأفلام وحتى شركات الملابس كمثال على هذه المنتجات.