المفهوم
ماذا يعني مفهوم الحرية لنا؟ او تحقيق العدل؟ لعلنا نحتاج بعض الوقت للتمعن في هذه المفاهيم الفضفاضة، ولو كانت لنا آلة زمن للعودة إلى حقبة فلاسفة معينين لسؤالهم، لأخذنا قطعا ضروباً مختلفة من الأجوبة. فلو سألنا سقراط لعله سيجيب بأحاديث مطولة وأسئلة تحقيقية حتى نكتشفها ذاتياً لندرك أننا كنا نخدع أنفسنا، ولو سألنا فولتير فقد يجيبنا بتلك المقولات التنويرية ذات الطابع الارستوقراطي بأن الحرية هي حق الإنسان بالتصرف بالكيفية التي يريدها، وقد يجيبنا نتشه بأن الحرية والعدل هي مصطلحات رنانة وخداعة ولعل مساوئها أكثر من فوائدها، ولو سألنا جون لوك فقد يجيبنا من ناحية دستورية عن حق الفرد في التصرف ولكن طبقاً لقواعد وشروط محددة تحت مفهوم العقد الاجتماعي. تندرج الفلسفة طبقاً لآلية حل المعاضل الفلسفية إلى مذهبين أساسيين؛ الفلسفة القارية والتحليلية.
الفلسفة القارية
حتى نفهم الفلسفة القارية ينبغي اولاً الولوج الى من صنفوا تحت خانتها ولعلهم سيرفضون ان قلنا لهم ذلك. ولذلك لا نكون دقيقين بالتعميم القطعي، ولكن بحكم تاريخي طبقاً لجوهر فلسفتهم.
يعتبر الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724- 1804) من أبرز أعلام الفلاسفة في تاريخ الفلسفة الغربية، فلقد أُنشئت عصبة الأمم المتحدة وميثاقها بناء على مقالة كانط عن معنى التنوير، وفكرة الواجب الأخلاقي التي يكون الإنسان محملاً بها التي بمقتضاها يندفع الإنسان غريزياً إلى التصرف الحسن، وأبرز إسهامات كانط في الفلسفة هي كتاب "نقد العقل المحض" (1781) والذي أنهى كما أجمع المفكرين على حل معضلة أساسية بين مدرستين فلسفتين، الفلسفة الانجليزية التجريبية التي تعتمد على الحواس ومن روادها ديفيد هيوم، وجون لوك، وتوماس هوبز.
رأت هذه المدرسة ان تحقيق المعرفة، يكون من خلال الحواس، وعلى حد تعبير جون لوك، فإن معرفة الإنسان تكون بداية كصفحة بيضاء، يتم تعبئتها من خلال التجربة التي تنبني على الحواس، والمدرسة الأخرى وهي العقلانية، والتي رأت أن مصدر المعرفة يكون عن طريق العقل ثم الحواس، مثل مقولة ديكارت " أنا أفكر، إذن أنا موجود" والاستدلال على الحواس فقط يسقط آليات عمل مهمة والاستنتاج والاستنباط التي تقوم بربط ما يتلقاه العقل. وقام كانط التوفيق بينهما ورأى انه دون الحواس لا يمكن إدراك الواقع المعاش، ولكن فهم الواقع يكون أيضاً عن طريق المعرفة القبلية التي يولد الإنسان معها، فالزمان والمكان والسببية هي أمور يدركها الإنسان دون اللجوء مباشرة إلى الحواس. ورأى كانط أن الوجود ينقسم إلى ما يمكننا إدراكه عن طريق التجربة، وما لا يمكننا إدراكه عن طريق التجربة، كمثل مفهوم الخلود والميتافيزيقيا والماورائيات.
رفض هيغل (1770-1831) هذا التقسيم للوجود الذي أقامه كانط ورأى أن العالم هو واحد متجانس ومتكامل في فكرة واحدة وأن هذه الفكرة نبلغها عن طريق فلسفة نفي النفي، وهي أن الشيء ونقيضه ينتجان فكرة جديدة أفضل من تناقضاتها وسوف تستمر تاريخياً للوصول إلى التجانس الأوحد والتقدم. وكثير من الفلاسفة تأثروا بهيغل منهم كارل ماركس وشوبنهاور وغيرهما.
إن منهج كل من هيغل وكانط ومن بعدهم مثل نيتشه وشوبنهاور وهايدغر وسارتر، جميعهم يشتركون في حل المعضلات الفلسفية من منظور يمكن وصفه بـ الانسانوي والتجريدي، فالحرية بالنسبة إلى سارتر تُكتسب بمجرد ولادة الانسان، وبالتالي هو دُفع تجاهها، وفلسفة القوة وحب الفن والجسد مطلوبة بالنسبة إلى نتشه من أجل إعطاء معنى ومسار تطوري للإنسان. ويعتقد كل من هوسرل وهايدغر ان الفينومينولوجيا (إدراك الواقع المحسوس عن طريق التأمل التجريبي) سوف يدخلنا إلى جوهر الأشياء وبالتالي التعمق في فهمها ونقدها) هي حجر الزاوية في الفلسفة. وستختلف آلية النظر إلى مفاهيم معينة لهؤلاء الفلاسفة عن أتباع الفلسفة التحليلية كما سنرى.
الفلسفة التحليلية
إذا سألنا فتغنشتاين (1989-1951) عن مفهوم الميتافيزيقا أو الاخلاق فسوف يقول إنها عبارة عن مغالطات لغوية و تشتتات في المفردات لا تمت للواقع بصلة، وأن العديد من الفلاسفة أفنوا حياتهم في فلسفة هي عبارة عن إبهامات لغوية، كمثل مفهوم العقل و الروح، او اللوغوس مثلاً، أو الروح المطلقة، فاللغة هي بكلمات بسيطة أداة الوعي البشري، و لا يوجد شيء يخرج عنها، و معادلة فتغنشتاين اللغوية بسيطة، فواحدة من آليات اكتساب المعرفة تكون عن طريق المماثلة، فالطائرة مثلاً لم يكن لنا ان نتصورها لولا إبداع الخيال الانساني وحلمه بالطيران، واستلهام هذا الحلم من الطائر نفسه، و الميتافيزيقيا لا يمكن ان تقوم بنفسها بعد عملية إسقاط المشابهة، ولهذا هي عبث لغوي. ولقد خطى استاذ فتغنشتاين وهو برتراند راسل على نفس الطريق، و ُعرفت مدرسة فكرية باسم دائرة فيينا ومن روادها ألفريد جول آير والتي قامت على نفس هذا المنهج الذي عُرف بالوضعية المنطقية متخذة اللغة كمنهج أساسي لها.
ما الذي يمكن أن نتعلمه من كلا المذهبين؟
أعتقد أرسطو بوجوب الوسط الذهبي الذي يجب على الانسان بمقتضاه ان يسعى له ليعيش حياته بأفضل شكل ممكن، فلا الجبن ولا التهور جاذبين مثل الشجاعة المعتدلة، لعله من الصعب إسقاط أنظمة فكرية كاملة على الوسط الذهبي، ولكن قطعاً يمكننا الاستفادة من كلا المذهبين، فكثير من المفاهيم نحتاج إلى التمعن بها كمثل الحرية والعدالة في مجتمعنا وشروط نجاحها وتعذره في مجتمعاتنا المعاصرة، وأيضاً ربط هذه المفاهيم بتصورات لا تنطبق على واقعنا كفيل بتحقيق تصور منهجي يترجمه إلى حلول عملية. والفلسفة هي تقليد تراكمي ربما لن تصل بنا إلى الدولة الفاضلة، ولكن قطعاً قد تصل بنا إلى مجتمع فعال.