يزدهر اليوم في الغرب، خصوصا في الولايات المتحدة، أدب السيرة الذاتية، سواء كانت سيرة حياتية كاملة، أو سيرة مجتزأة لتجربة معينة. ويجد هذا النوع من الكتابات صداه لدى القراء، بما يشتمل عليه من كشف يطال أدق تفاصيل الحياة الشخصية لكتابها.
بعض تلك الكتابات جاءت بأقلام كتّاب معروفين، وأخرى بواسطة أناس عاديين اختبروا تجارب اعتقدوا أن من المفيد مشاركتها مع الآخرين. لكن ما يميز هذه الكتابات جميعها هو سقف الكشف الذي تشتمل عليه، فهي تغوص في تفاصيل حياة شخوصها، وتتناول بطرق فضائحية تجارب كان يمكن السكوت عنها، وعدم تصديرها للقراء.
في دراسته المهمة عن هذا الأمر في صحيفة "الغارديان"، تساءل بليك موريسون عن السبب الذي يجعل بعض الكتّاب يعترفون بأكثر أسرارهم إيلاما؛ كتحطم الزواج وإدمان المخدرات والانتهاك الجنسي، مؤكدا في الوقت نفسه أن "المذكرات الاعترافية مزرية"، وأن "النرجسية جزء أصيل فيها".
وفي الوقت الذي يتم منح القارئ امتياز الوصول إلى حقائق شخصية عن الكاتب وعائلته، فإن الكاتب، بحسب رأي جورج أورويل في الكتابات الذاتية، يمارس نوعا من "الأنانية المطلقة" فيها. ويعرفها بأنها "الرغبة في أن تبدو ذكيا، من أجل أن يتم الحديث عنك، وأن تكون مذكورا بعد الموت".
وإذا كانت الكتابة الغربية تحاول الحطّ من النفس من أجل تقديم "نموذج مجرد" كما قد يبدو للوهلة الأولى، فيما تخفي خلفها محاولات الشعور بالتفوق والتعالي والتذاكي، والإقرار بالنضوج داخل مجتمع غير ناضج، فإن هذا النوع من الكتابات في العالم العربي ظل يستند إلى جوانب فلسفية متينة، أخفت وراءها النظرة الجادة إلى الحياة وإلى مهنة الكتابة كسبيل إلى الحكمة والوعظ والإرشاد، من غير أن تقدم في الحقيقة إسهامات مفيدة لا للأدب ولا للتجربة الإنسانية.
من يطالع الكثير من الكتابات الذاتية لكتاب عرب وأدباء وأكاديميين وحتى سياسيين، سيكتشف أن كثيرها بلا محتوى سوى تأكيد التفوق والذكاء والمعرفة الثاقبة، وأن كتابها لم يدخلوا في نقد موضوعي لتجاربهم، ولا قيّموا بموضوعية تجربتهم ككل.
وإذا كانت الكتابة الذاتية لها منطلقات أخرى أحيانا، كتبرير الذات، أو الرغبة في صدم الآخرين، أو إعادة تعريف الأحداث والأشياء، أو حب الظهور، أو المعالجة، أو حتى الاستعداد لقول الحقيقة، فإن الكتابة العربية انطلقت من تكريس "النموذج الأبوي" في هذه الكتابة، فانطلق كتابها في التنظير بلا حساب.
لكن، وللحقيقة، فإننا سنجد لدى العرب كتابات ذاتية تستحق النظر فيها، مثل كتابات المغربي محمد شكري والأردني مؤنس الزاز، فهي تندرج ضمن الكتابة التي حاولت الوصول إلى الحقيقة، أو أنها حاولت التطهر والتخلص من أحمال الماضي، كما تقر فرجينيا وولف كيف أن الكتابة يمكن أن "تقلل صدمات الطفولة".
ولكن بالعودة إلى كتابة الاعتراف بين ثقافتين؛ الغربية والعربية، فلا بد أن نردد مع سوزان سونتاج حين تقول: "بعض الناس هم حياتهم، وبعضهم الآخر بالكاد تشبههم حياتهم".